الخميس، 16 مايو 2013

تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2012 : حالة حقوق الإنسان في العالم

في الخامس من مايو/ أيار الجاري، دخل البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حيز التنفيذ


القيادة تنبثق من الشارع
        كان التغيير والبسالة والصراع من سمات العام 2011 – وهو العام الذي نهضت فيه الشعوب احتجاجاً على الحكومات وغيرها من الفاعلين ذوي النفوذ، في أعداد لم نشهد لها مثيلاً منذ عقود. وقد خرجت الجماهير احتجاجاً على إساءة استغلال السلطة، وانعدام المساءلة، وتنامي عدم المساواة، وتفشي الفقر المدقع، وغياب القيادة على مستوى الحكم. وكان التناقض بين شجاعة المحتجين المطالبين بالحقوق، وعجز القيادة عن الارتقاء إلى مستوى تلك الشجاعة باتخاذ إجراءات ملموسة لبناء مجتمعات تقوم على احترام حقوق الإنسان؛ تناقضاً مؤلماً بكل وضوح.
     في بداية الأمر، بدا أن الاحتجاجات والاضطرابات ستقتصر على البلدان التي كان فيها الاستياء والقمع متوقَّعيْن. ولكن مع مرور أيام ذلك العام، بات واضحاً أن فشل الحكومات في ضمان العدالة والأمن والكرامة الإنسانية هي التي كانت تطلق شرارة الاحتجاجات في العالم. فمن نيويورك إلى موسكو إلى لندن إلى أثينا، ومن دكار وكمبالا إلى لاباز وكويرنفاكا، ومن فنوم بنه إلى طوكيو، خرجت الجماهير إلى الشوارع.
     وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، انطلقت الشرارة الأولى من غضب ويأس شاب تونسي، وأجَّج نارها غضب آلاف المحتجين، فاجتاحت البلاد بأسرها وأطاحت بحكم الرئيس بن علي. ومع انتشار رقعة الاحتجاجات في سائر أرجاء المنطقة، أُخذت الحكومات الغربية على حين غرَّة. فقد كانت تلك الحكومات تعرف أن غضب المحتجين من القمع وانعدام الفرص الاقتصادية يستند إلى أسس قوية، ولكنها لم تشأ أن تفقد "علاقتها الخاصة" بالحكومات القمعية، التي رأت فيها ضماناً لعدم زعزعة الاستقرار في منطقة استراتيجية تحتوي على احتياطي ضخم من النفط والغاز.
وكانت ردود الحكومات على الاحتجاجات السلمية في المنطقة تتسم بالوحشية، بل كانت مميتة في أغلب الأحيان. فقد تزايد بشكل مستمر عدد الأشخاص الذين قُتلوا أو جُرحوا أو سُجنوا بسبب ممارستهم لحقوقهم. واضطر عشرات الآلاف من الأشخاص للنزوح، وشقَّ بعضهم رحلته المهلكة عبر البحر الأبيض المتوسط بحثاً عن ملجأ. وأدى شبح تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين من شمال أفريقيا إلى تصاعد خطاب كراهية الأجانب من قبل بعض السياسيين الأوروبيين.
     وفي مصر، مرَّ أكثر من عام على تنحي الرئيس حسني مبارك وتولِّي المجلس الأعلى للقوات المسلحة زمام السلطة في البلاد، مع تعهده بأن دوره سيكون انتقالياً. ويعتقد العديد من الأشخاص أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يحرِّض على العنف، أو يعجز عن منع، بهدف إضفاء الشرعية على الرأي الذي يقول إن الدولة التي يدير شؤونها الجيش هي وحدها التي تتمتع بالقوة الكافية لضمان الأمن.

بيد أن الأمر الأكثر إثارة للقلق في مصر يتمثل في أنه جرت محاكمة ما يربو على 12,000 مدني من قبل الجيش، أو تقديمهم إلى القضاء العسكري – وهذا عدد يفوق مجموع الذين قُدموا إلى المحاكم العسكرية خلال عهد مبارك برمته الذي دام 30 عاماً. وكان إلغاء قانون الطوارئ، الذي كان يمثل أداة رئيسية للانتهاكات يمثِّل مطلباً رئيسياً للمحتجين. غير أن الحكومة المؤقتة، شأنها شأن حكومة مبارك، تدعي أنها بحاجة إلى التمتع بسلطات خاصة لضمان الأمن.
وثمة ممارسة أخرى انتقلت من عهد حكومة مبارك، وهي عمليات الإخلاء القسري للسكان الذين يعيشون في المناطق العشوائية. ووقعت الأغلبية العظمى من الوفيات خلال "ثورة 25 يناير" في صفوف المجتمعات المهمشة، ومن بينهم أولئك الذين يعيشون في المناطق العشوائية. وقد عاش المصريون على مدى عقود من الزمن في ظل النسخة الحكومية من مفهوم الأمن – ولكنهم يستحقون ما هو أفضل من ذلك.
       ودفعت النساء بشكل خاص ثمناً باهظاً في ظل الحكم العسكري. ففي مارس/آذار 2011، قبضت قوات الأمن على مجموعة من الشابات اللائي كن يقمن بالاحتجاج في ميدان التحرير. ثم أُخضعن لفحوص العذرية القسرية وتلقين تهديدات من قبل الجيش. وفي ديسمبر/كانون الأول، قضت محكمة إدارية مصرية بأن تلك الممارسة تعتبر غير قانونية، وأمرت بوضع حد لإخضاع النساء المعتقلات لفحوص العذرية. وكانت تلك خطوة إيجابية، ولكن تعزيز حقوق المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين لا يزالان بعيديْ المنال على الرغم من أن النساء يلعبن دوراً أساسياً في الاحتجاجات. وعندما طلبت منظمة العفو الدولية من مختلف الأحزاب السياسية في مصر الالتزام بحماية المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، من قبيل حرية التعبير والتجمع، وإلغاء عقوبة الإعدام والحرية الدينية وعدم التمييز والمساواة بين الجنسين، لم يلبِّ الحزبان الرئيسيان اللذان حصلا على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية هذا الطلب. إذ لم يرد حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين، الذي فاز بـ 235 مقعداً (47 بالمئة)، على طلب منظمة العفو الدولية. كما أن حزب النور السلفي، الذي احتل المرتبة الثانية في الانتخابات، حيث حصل على 121 مقعداً (24 بالمئة) أحجم عن تأييد حقوق المرأة أو إلغاء عقوبة الإعدام.
      وفي ليبيا، ردَّ العقيد معمر القذافي على احتجاجات الشارع بالتوعد بتحطيم المحتجين، الذين أطلق عليهم اسم "الجرذان". وأعلن القذافي ونجله سيف الإسلام – الذي اعتُبر "بطل الإصلاح في ليبيا" في السابق – حرباً مفتوحة على كل من يُعتبر غير موالٍ للنظام. وقد أرسل القرار غير المسبوق لمجلس الأمن بإحالة ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية إشارة قوية بشأن أهمية المساءلة. وعلى الرغم من ذلك، فقد انزلقت البلاد إلى نزاع مسلح. وعندما قُتل العقيد القذافي في الحجز في أكتوبر/تشرين الأول، كانت قواته قد قامت باختطاف وتعذيب آلاف المقاتلين المعارضين الأسرى وغيرهم من المعتقلين. وفرَّ مئات الآلاف من السكان من أتون النزاع، وجرتْ عمليات نزوح جماعي. ولا تزال ليبيا غير مستقرة: فالمجلس الوطني الانتقالي لا يسيطر فعلياً على البلاد، ولا تزال أفعال التعذيب وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وغير ذلك من أشكال الانتقام وعمليات النزوح القسري مستمرة.
       وواصلت إيران حملة القمع التي بدأت في أعقاب انتخابات عام 2009، وأظهرت استعدادها لاعتقال كل مَن يطعن في شرعية الرئيس أحمدي نجاد. وتمارس الحكومة الرقابة اللصيقة على وسائل الإعلام، وتحظر الصحف وتحجب المواقع الإلكترونية وقنوات التلفزة الفضائية الأجنبية. ويتم تفريق المظاهرات المناهضة لسياسات الحكومة بعنف، ويُقبض على منتقدي الحكومة ويُعتقلون تعسفياً. ومع ذلك، فإن الناس مستمرون في الدفاع عن حقهم في حرية التعبير.
     وقد شهد العالم هذا النمط من الاحتجاجات والردود المميتة عليها في بلد تلو الآخر. ففي البحرين، عملت الحكومة على قمع المظاهرات بدعم من القوات العسكرية السعودية. وفي يونيو/حزيران، كررت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون دعم الولايات المتحدة لهذا البلد، واعتبرت البحرين "شريكاً مهماً"؛ على الرغم من توفر أدلة قاطعة على استخدام الحكومة للقوة المميتة ضد المحتجين السلميين، وحبس زعماء المعارضة وتعذيبهم. وقد عكس انتقادها الخافت للبحرين رغبة الحكومة الأمريكية في ضمان استمرار القاعدة البحرية الأمريكية للأسطول الخامس في البحرين؛ حتى لو كان ذلك يعني تجاهل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
     وفي اليمن رفض الرئيس علي عبد الله صالح التخلي عن السلطة، حتى بعد إصابته بجروح بالغة في انفجار استهدفه، وتراجع مراراً وتكراراً عن الالتزام بالاتفاقيات التي عُقدت معه بشأن انتقال السلطة على الرغم من الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد بأسرها مطالبةً بإسقاطه. وأخيراً، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، تنازل علي عبد الله صالح عن السلطة مقابل التمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية على الجرائم التي ارتُكبت إبان فترة حكمه، وخلال الانتفاضة التي اندلعت ضده. وترك علي صالح السلطة في يد نائبه عبد ربه منصور هادي، الذي تم تنصيبه كرئيس جديد خلال انتخابات أُجريت في فبراير/شباط 2012 ولم ينافسه فيها أي مرشح آخر.
      وفي سوريا، لا يزال الرئيس بشار الأسد يتشبث بالسلطة بعناد في وجه انتفاضات شعبية واسعة النطاق ضد حكمه القمعي. وقد قُتل آلاف المدنيين أو جُرحوا، وأُرغم عدد أكبر من ذلك على النزوح. وأظهر استخدام الجيش السوري الدبابات لقصف مدينة حمص ازدراءً تاماً لأرواح السكان المحليين. وأفاد أفراد في الجيش السوري ممن انشقوا عنه، وفروا من البلاد، بأنهم تلقوا أوامر بقتل الأشخاص الذين كانوا يشاركون في الاحتجاجات السلمية، أو حتى المارة في بعض الأحيان. وفي فبراير/شباط 2012، ذكر الممثل الخاص للأمم المتحدة المعني باشتراك الأطفال في النزاع المسلح أن مئات الأطفال قُتلوا إبان الانتفاضة، كما قُبض على أطفال آخرين تصل أعمارهم إلى 10 سنوات، واحتُجزوا وتعرضوا للتعذيب. ويتعين على المجتمع الدولي أن يلعب دوراً مهماً في تحقيق العدالة والأمن لشعوب المنطقة. ومع ذلك، فإن التحرك الدولي ما زال غير كاف إلى حد كبير حتى الآن.
السلطة والمسؤولية والمساءلة
       حاول المجتمع الدولي الرد بشكل فعال. وبرزَ الخوف والفرص والنفاق والنوايا الطيبة، جميعاً، في النقاش الدائر. ففي عام 2011 سُلطت الأضواء على جامعة الدول العربية، عندما حاولت حل القضايا في العديد من البلدان العربية. وكان لدعمها قرار مجلس الأمن بشأن ليبيا أهمية حاسمة في ضمان عدم لجوء أي من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى استخدام حق النقض. ولكن نظراً لخوف بعض الدول الأعضاء في الجامعة العربية من احتمال امتداد الاحتجاجات إليها، فقد فشلت هذه الهيئة الإقليمية في وضع حد للقمع والوحشية.
     ومع تدهور الأوضاع في سوريا، قررت جامعة الدول العربية إرسال بعثة مراقبة إلى البلاد. بيد أن شرعية البعثة سرعان ما تعرضت للتشكيك عندما عيَّنت الجامعة الجنرال محمد أحمد مصطفى الدابي، وهو الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية السودانية، على رأس البعثة. وتحت إمرة الدابي كانت الاستخبارات العسكرية السودانية مسؤولة عن عمليات القبض والاعتقال التعسفيين والاختفاء القسري وتعذيب العديد من الأشخاص في السودان. وعلَّقت البعثة أنشطتها في أواخر يناير/كانون الثاني 2012 لأن العنف جعل من المتعذر على المراقبين القيام بمهماتهم. كما فشلت محاولة لاحقة لإرسال بعثة لحفظ السلام. وفي أواخر فبراير/شباط، تم تعيين الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان كمبعوث مشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية خاص بالأزمة السورية.
وعندما دعت جامعة الدول العربية مجلس الأمن إلى القيام بدوره في المحافظة على السلم والأمن الدوليين استخدمت كل من روسيا والصين حق النقض ضد قرار دعا إلى وضع حد للعنف وتنحي الرئيس بشار الأسد، وذلك استناداً إلى مبدأ سيادة الدول. كما برَّرت روسيا استخدامها لحق النقض بانتقادها تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ليبيا بسبب تجاوزه للصلاحيات التي منحها له القرار، وهي حماية المدنيين.

        إن استخدام حق النقض لتقويض السلم والأمن الدوليين ليس بالأمر الجديد. فقد استخدمت روسيا (وقبلها الاتحاد السوفييتي) والولايات المتحدة حق النقض أكثر من 200 مرة فيما بينهما – وكان العديد منها لأسباب سياسية واضحة. إن فشل مجلس الأمن في اتخاذ إجراءات فعالة بشأن سوريا، على غرار فشله في التدخل في حالة سري لنكا، يثير تساؤلات خطيرة حول ما إذا كانت لديه الإرادة السياسية لضمان السلم والأمن الدوليين، كما أنه يذكِّر الذين يسعون إلى طلب الحماية من الأمم المتحدة بأن النظام الدولي خال تماماً من المساءلة. ويبدو أن الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن تدافع عن سيادة الدولة، عندما يحمي ذلك سلوكها من النقد، أو يساعد في المحافظة على علاقاتها الخاصة (والمربحة) مع الحكومات القمعية.
       وعقب استخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن، وردت أنباء عن استمرار مبيعات الأسلحة من قبل الشركة الروسية المصدِّرة للأسلحة التابعة للدولة، وهي شركة "روزوبورون إكسبورت"، إلى الحكومة السورية، بما في ذلك صفقة لبيع طائرات مقاتلة. وقال مدقق حسابات سابق في وزارة الدفاع السورية، انشقَّ في يناير/كانون الثاني 2012، إن مبيعات الأسلحة الروسية إلى سوريا ازدادت بشكل حاد منذ بدء الانتفاضة.
وربما ليس بالأمر المفاجئ أن تكون الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن هي نفسها الدول الأكبر في العالم المصدرة للأسلحة. فهي، مجتمعةً، شكلت ما لا يقل عن 70 بالمئة من مجمل صادرات الأسلحة في عام 2010: الولايات المتحدة (30 بالمئة)، روسيا (23 بالمئة)، فرنسا (8 بالمئة)، المملكة المتحدة (4 بالمئة)، الصين (3 بالمئة). وعلى الصعيد العالمي، أدى هذا التدفق اللامسؤول للأسلحة من هذه الدول الخمس إلى مقتل عدد لا يُحصى من المدنيين، فضلاً عن الانتهاكات الجسيمة الأخرى لحقوق الإنسان وقوانين الحرب.
      ووثَّقت منظمة العفو الدولية كيف سمحت حكومات: أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وروسيا، بإرسال إمدادات الذخيرة والتجهيزات العسكرية، وأسلحة الشرطة إلى كل من البحرين، ومصر، وليبيا، واليمن في سنوات القمع الوحشي التي أدت إلى اندلاع الانتفاضات الشعبية. وكان من الممكن منع تلك الصادرات، لو أن تلك الدول المزوِّدة لها التزمت بسياستها المعلنة المتعلقة بتجنب صادرات الأسلحة التي يمكن أن تسهم في وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
ويبقى السؤال: هل يمكن الوثوق بالبلدان التي تستطيع استخدام حق النقض ضد أي قرار من مجلس الأمن، في صون السلم والأمن الدوليين، عندما تكون هي نفسها المستفيد الأكبر من تجارة الأسلحة العالمية؟ وطالما ظلت سلطة استخدام حقوق الإنسان النقض مطلقة، وطالما لم توجد معاهدة قوية لتجارة الأسلحة تستطيع منع هذه الدول من بيع الأسلحة إلى الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان، فإن دورها، كضامن للسلم والأمن، سيظل محكوماً بالفشل على ما يبدو.
عالمية فشل القيادة
     إن فشل القيادة الذي أدى إلى إطلاق شرارة الاحتجاجات الشعبية، وتأجيجها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا يقتصر على مجلس الأمن أو على منطقة واحدة من مناطق العالم.
فقد انتقلت الاحتجاجات المناهضة للحكومات من شمال أفريقيا إلى أجزاء أخرى من القارة. ففي أوغندا، وعلى الرغم من حظر جميع أشكال الاحتجاجات العامة في فبراير/شباط 2011، خرج الناس إلى الشوارع في مختلف مدن البلاد للاحتجاج على ارتفاع أسعار الوقود وغيره من السلع الأساسية. وردَّت الشرطة باستخدام القوة. وفي زمبابوي وسوازيلند، حاولت السلطات إخماد الاحتجاجات باستخدام القوة المفرطة. واستُخدمت الذخيرة الحية ضد المحتجين في بلدان من قبيل بوركينا فاسو وملاوي والسودان، الأمر الذي يُظهر المدى الذي يمكن أن تذهب إليه بعض الحكومات في سبيل التشبث بالسلطة.
    وفي أمريكا اللاتينية أيضاً، رفع الناس أصواتهم. ففي بوليفيا تزداد التوترات الاجتماعية، وسط تكرر الاحتجاجات بشأن القضايا الاقتصادية، وحقوق السكان الأصليين. فعندما شارك مئات الأشخاص في مسيرة احتجاجية طولها 360 ميلاً من ترينيداد في محافظة بيني إلى لاباز في أواسط عام 2011، اضطر الرئيس موراليس إلى إلغاء خطط إنشاء طريق عبر أراضي السكان الأصليين في إسيبوري سكيوري والمتنزه الوطني. إذ أن تلك الخطط كانت تشكل انتهاكاً للضمانات الدستورية بشأن التشاور المسبق وقوانين المحافظة على البيئة. وقد أُصيب عشرات الأشخاص بجروح خلال الاحتجاجات، عندما استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والهراوات؛ لتفكيك مخيم مؤقت أُقيم على الطريق. وفي المكسيك، خرج الناس إلى الشوارع مراراً للمطالبة بوضع حد للعنف والإفلات من العقاب، وعسكرة الحرب على المخدرات، وسط تزايد الخسائر في أرواح المدنيين.
     وفي روسيا أسهمت مشاعر الإحباط من الفساد والمحسوبية والعمليات الديمقراطية المزيفة التي تحرم الناس من فرصة استخدام أصواتهم، في الضغط من أجل إحداث تغيير. وتم إضعاف أصوات المعارضة في الحلبة السياسية على نحو ممنهج، وحرمانها من الوصول إلى وسائل الإعلام السائدة التي تؤكد أن بوتين لم يواجه أية معارضة حقيقية في الانتخابات الرئاسية. ومما زاد الطين بلة أن بوتين وصف المحتجين بأنهم "باندرلوغ"، في إشارة إلى قرود رواية "كتاب الأدغال" الشهيرة للكاتب روديارد كبلنغ، وشبَّه رمز احتجاجها، وهو الشريط الأبيض، بالعازل الذكري. بيد أن الاحتجاجات تؤذن بانبلاج حقبة جديدة في روسيا، وبظهور طائفة جديدة من التحديات لبوتين والمحيطين به؛ إذ سيتعين عليهم إيجاد طرق للتصدي لهذه التحديات وتلبية المطالب، مادام الإصلاح السياسي، واحترام حقوق الإنسان، قد وُضعا على جدول الأعمال بقوة.
      وأظهرت السلطات الصينية خوفها من نمط الانتفاضات الشعبية، على شاكلة ما حدث في تونس، بأن تحركت بسرعة لاستباق الاحتجاجات. ففي فبراير/شباط، خرجت قوات الأمن الصينية بأعداد كبيرة إلى الشوارع في شنغهاي بهدف منع أية مجموعة صغيرة من التحول إلى حشد. وعلى الرغم من القيود الصينية المشددة على وسائل الاتصال الرقمية وتدفق المعلومات؛ فقد أشارت مصادر رسمية إلى خروج آلاف المظاهرات في شتى أنحاء البلاد. وشكَّلت عمليات الإخلاء القسري في المناطق الريفية والحضرية على السواء محوراً رئيسياً للمحتجين في الصين. وفي التبت، حيث القيود أشد، احتجَّ أكثر من عشرة رهبان بإضرام النار في أنفسهم، وقتلت قوات الأمن عدداً من المحتجين، وأصابت آخرين بجروح في يناير/كانون الثاني 2012.
     وأظهرت السلطات في ميانمار أيضاً قلقها بشأن إمكانية اندلاع اضطرابات عامة، فسارعت إلى إعادة تصوير نفسها كمؤيدة للإصلاح. وسمحت الحكومة للسيدة دو اونغ سان سو كي، من الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بالتسجيل لخوض الانتخابات الفرعية، وسُمح لبعض المنفيين بالعودة إلى البلاد. وبحلول أواسط يناير/كانون الثاني 2012، كان قد أُطلق سراح 600 سجين سياسي، واستعاد العديد منهم أنشطتهم المعارضة. بيد أن مئات الأشخاص مازالوا يقبعون وراء القضبان، مع أن من الصعب تأكيد الأرقام الدقيقة. إن التزام الحكومة المعلن بالسماح للمعارضة السياسية السلمية يعتبر أمراً مشجعاً، ولكن لا يزال أمامها الكثير كي تفعله.
الديمقراطية والتجريد من الإمكانيات
        عندما اشتعلت نار الاحتجاجات في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغيرها من البلدان التي كانت تشهد قمع حرية التعبير والتجمع، بدت معظم الحكومات الديمقراطية على ثقة من أن الاضطرابات المدنية ستبقى "هناك" بعيدةً عنها. بيد أن الاحتجاجات، في الحقيقة، حدثت في شتى أنحاء العالم وأظهرت محدودية الحكومات الديمقراطية في تعزيز حقوق الإنسان والإيفاء بها.
وظلت الخطوط الواضحة التي يرسمها السياسيون للتمييز بين الحكومات الجيدة والحكومات السيئة مبسَّطة بشكل مبالغ فيه باستمرار. فقد فضحت الانتفاضات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنانية ونفاق السياسات الخارجية للدول التي تدعي احترام حقوق الإنسان. ولكن السياسات المحلية، التي أدت إلى استمرار الأزمة الاقتصادية والمعاناة من تنامي انعدام المساواة الدائم، افتضح فشلها في تعزيز حقوق الإنسان في داخل بلدانها كذلك. واجتاحت مشاعر كراهية الأجانب بلدان أوروبا والولايات المتحدة لأن المهاجرين وقعوا كبش فداء. كما يواجه أفراد طائفة "الروما"، الذين عانوا من الاضطهاد والتهميش طويلاً في أوروبا، وغيرهم من ضحايا التطوير الحضري، عمليات الإخلاء القسري والعنف.
وتمثّل رد حكومة الولايات المتحدة على الأزمة الاقتصادية في إقراض المؤسسات المالية، التي كانت "أضخم من أن تفشل"، لإنقاذها من الإفلاس. ولكنها فعلت ذلك بدون فرض أية شروط على كيفية القيام بذلك. وشعر العاطلون عن العمل، وغير القادرين على تأمين الضمان الصحي، ويواجهون الإغلاق، وربما فقدان السكن والتشرد، بأنهم تعرضوا للخيانة. وكما كتب الفائز بجائزة نوبل جوزيف ستيغليتس، فإن "المصارف حصلت على الأموال، التي ذهب جزء منها على شكل علاوات إضافية، ولم يذهب سوى القليل منها إلى إقراض الناس. وفي النهاية التفت مديرو المصارف إلى أنفسهم وفعلوا ما تعوَّدوا على فعله."
      إن ما كشفت الأزمة الاقتصادية النقاب عنه هو أن العقد الاجتماعي بين الحكومة والمحكومين قد فُسخ. فقد كانت الحكومات في أحسن الأحوال غير مبالية بهموم الناس، وفي أسوأ أحوالها كانت مهتمة بحماية المتربعين على سدة السلطة، ليس إلا. وشكَّلت الإحصاءات التي تُظهر ازدياد انعدام المساواة، في الدخل والأصول، نوعاً من الأدلة على فشل الحكومات في الإيفاء بالتزاماتها بضمان الإحقاق التدريجي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ومع تعمُّق الأزمة الاقتصادية في العديد من البلدان الأوروبية، خرج الناس إلى الشوارع في مظاهرات مناهضة لإجراءات التقشف. ففي اليونان أشارت أشرطة الفيديو والصور الفوتوغرافية والتقارير الصحفية إلى تكرر استخدام القوة المفرطة من قبل الشرطة في المظاهرات التي اندلعت في أثينا في يونيو/حزيران، بما فيها الاستخدام الواسع للمواد الكيميائية ضد المحتجين السلميين إلى حد كبير. وفي أسبانيا استخدمت الشرطة القوة المفرطة لوقف المظاهرات التي طالب فيها المحتجون بتغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية. وأظهرت الاحتجاجات المستمرة في أوروبا وأمريكا الشمالية أن الناس فقدوا ثقتهم في حكوماتهم التي تزدري المساءلة والعدالة، وتعزيز المساواة مرة تلو أخرى.
مواجهة ردود الفعل
      في الوقت الذي تعرض فيه المحتجون في أوروبا وأمريكا الشمالية لانتهاك حقهم في حرية التجمع، وفي بعض الحالات للاستخدام غير المشروع للقوة على أيدي الشرطة، التي استخدمت خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، فقد كانت المخاطر أكبر في أجزاء أخرى من العالم. ففي تونس ومصر واليمن وسوريا واجه المحتجون خطر الموت والاختفاء القسري والتعذيب في سبيل الحرية. وفي حمص واجه المحتجون الدبابات القناصة، وعمليات القصف والاعتقال والتعذيب.
     وقد فرضت التقانة الحديثة بعض القيود على الشرطة، التي ذكَّرها المحتجون مراراً بأن بوسعهم استخدام الهواتف الخليوية لتسجيل حوادث وحشية الشرطة، وتحميلها على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي فوراً. وبذلت الشرطة كل ما في وسعها لتقييد انتقادات وسائل الإعلام، وترهيب المحتجين، واستخدام الغاز المسيل للدموع، ورذاذ الفلفل والهراوات. وفي خطوة إبداعية بشكل خاص، عمدت السلطات في الولايات المتحدة إلى نفض الغبار عن قانون كان قد سُنَّ في القرن الثامن عشر لمنع ارتداء أقنعة الوجه في نيويورك، بهدف قمع المحتجين السلميين إلى حد كبير.
وثمة خيط مشترك يربط بين هذه الاحتجاجات، سواء كانت في القاهرة أو نيويورك، وهو السرعة التي هبَّت بها الحكومات لمنع الاحتجاجات السلمية وإسكات المعارضة.
صعود قوة الشركات
      ليس ثمة من سيناريوهات توضح حالة انعدام القيادة أكثر من عجز الحكومات عن تنظيم الشركات الكبرى، ولاسيما الشركات متعددة الجنسيات التي غالباً ما تجني الأرباح على حساب المجتمعات المحلية. فمن شركة "شل" في دلتا النيجر بنيجيريا إلى شركة "فيدانتا ريسورسيز" في أوريسا بالهند، عجزت الحكومات عن حمل الشركات على احترام حقوق الإنسان كحد أدنى. وفي العديد من البلدان يواجه مئات الآلاف من الناس عمليات الإخلاء القسري مع محاولة شركات التعدين المطالبة بملكية الموارد الطبيعية.
     وتتعرض الشركات العاملة، في مجال الوسائل الرقمية والاتصالات، لمزيد من التدقيق في مواجهة مطالبة الحكومات لها بالالتزام بقوانين غير شرعية بشكل صارخ وتنتهك حقوق الإنسان، ومنها الحق في حرية التعبير وفي الحصول على المعلومات، والتمتع بالخصوصية. وثمة أدلة على أن الشركات المكرَّسة ظاهرياً لحرية التعبير وتبادل الرأي (والمستفيدة منها)، ومنها فيس بوك وغوغل وميكروسوفت وتويتر وفودافون وياهو، تتعاون مع الحكومات في ارتكاب بعض تلك الانتهاكات.
    إن المخاطر التي تهدد حرية التعبير على الإنترنت، والتي يجري إبرازها في سياق ثورات حقوق الإنسان ليست جديدة. فقد دأبت منظمة العفو الدولية على توثيق عجز الحكومات، من قبيل الصين وكوبا وإيران، عن احترام حرية التعبير والحقوق المتصلة بها على الإنترنت. كما أن القوانين التي طُرحت مؤخراً في الكونغرس الأمريكي، وفي الاتحاد الأوروبي، تشكل تهديداً لحرية الانترنت. إن عجز الحكومات عن المطالبة بأي مستوى من مستويات مساءلة الشركات والمؤسسات إنما يُظهر، مرة أخرى، كيف تعمل الحكومات من أجل دعم القابضين على زمام السلطة بدلاً من تمكين الذين جُرِّدوا من إمكاناتهم.
البحث عن قيادة
     إن ما برز خلال عام من الاضطرابات والعملية الانتقالية والنزاع يتمثل في الفشل الفريد للقيادة على المستويين الوطني والدولي. وافتضحت محاججات المسؤولين في الحكومات القمعية الذين يرفضون مفهوم عالمية حقوق الإنسان، ويقولون إن حقوق الإنسان ما هي إلا قيم غربية يتم فرضها عليهم. كما افتضحت معتقدات الحكومات الأخرى التي انطلى عليها أن الشعوب في بعض البلدان "ليست مستعدة لتقبُّل الديمقراطية وحقوق الإنسان".
كيف يمكن إذن أن تستعيد الحكومات دورها كقيادات شريعة؟
أولاً، يجب أن ينتهي النفاق، ولا يجوز لأية دولة أن تدعي أن الشعب الذي تحكمه ليس مستعداً لحقوق الإنسان، ونظام المشاركة في الحكم. ويجب أن تتوقف الدول التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان عن دعم الزعماء الطغاة لأنهم حلفاؤها. وإن صرخة الحرية والعدالة والكرامة التي تدوي في أرجاء العالم يجب أن تُحترم. وتتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في احترام جميع الدول لحرية التعبير والحق في الاحتجاج السلمي.
ثانياً، يجب أن تتحمل الدول مسؤولياتها بصفتها من الفاعلين الدوليين، وأن تأخذها على محمل الجد – ولاسيما تلك المكلَّفة بضمان السلم والأمن الدوليين. ويتمثل أحد الأمثلة على مثل هذا الالتزام في تبني اعتماد معاهدة قوية لتجارة الأسلحة.
      في يوليو/تموز 2012 ستعقد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة اجتماعاً للاتفاق على النص النهائي للمعاهدة. إن اعتماد معاهدة قوية من شأنه أن يمنع عمليات النقل الدولية لجميع أنواع الأسلحة التقليدية، ومنها الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة والذخيرة والمكونات الرئيسية، إلى بلدان يمكن أن تُستخدم فيها لارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن تشترط المعاهدة على الحكومات إجراء تقييمات صارمة للأخطار المحدقة بحقوق الإنسان قبل إصدار تراخيص لتصدير الأسلحة. ومن شأن ذلك أن يُظهر أن الحكومات تقدم حقوق الإنسان والسلم والأمن العالميين على مصالحها السياسية وأرباحها من تجارة الأسلحة. ولم يصبح وضع معاهدة قوية لتجارة الأسلحة هدفاً قريب المنال في الواقع إلا لأن نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان، وأفراداً على مستوى القواعد الشعبية، وعلى المستويات الوطني والإقليمي والدولي، ممن يدركون الثمن الباهظ الذي تدفعه البشرية بسبب تجارة الأسلحة غير المسؤولة، هبُّوا لمطالبة الحكومات بالتصدي لمشكلة حقوق الإنسان.
      وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي فرض رقابة وإشراف أكبر، وخاصة من المؤسسات المالية، بهدف منع وقوع هذا النوع من الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تدفع بالعديد من سكان العالم إلى هاوية الفقر. إذ أن ضعف الرقابة والإشراف وانعدام الأنظمة واللوائح التي تنظم هذا العمل، سمح للمصارف وشركات الرهن بالمقامرة بمدخرات الناس ومنازلهم.
ويجب أن يتفهم القادة ضرورة وضع نظام يحمي الضعفاء ويقيِّد الأقوياء، والمحافظة على هكذا نظام – وهو نظام يقوم على حكم القانون، الذي يكفل وضع حد للإفلات من العقاب، والالتزام بالمعايير الدولية للعملية الواجبة والمحاكمات العادلة واستقلال القضاء، ونظام يتذكر فيه الزعماء أنهم موجودون هنا لخدمة مصالح مواطنيهم على أفضل وجه ممكن. وإن خلق بيئة تتيح للجميع إمكانية المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية، حيث يتم توفير دعم مؤسسي قوي للانخراط في المجتمع المدني، يُعتبر طريقة واضحة لتجذير هذه الرؤية.
       إن حركة منظمة العفو الدولية بُنيت على فهم أن حرية التعبير، والقدرة على تحدي الحكومات، ومطالبتها باحترام حقوق الإنسان وحمايتها والإيفاء بها، أمر أساسي من أجل بناء عالم يعيش فيه الجميع أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق. لقد استعدَّ المحتجون للمنازلة، مطالبين الحكومات بإظهار الروح القيادية من خلال تعزيز وإحقاق حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والكرامة. وقد أظهر العالم أن القادة الذين لا يلبون هذه الآمال والتوقعات لن يكونوا مقبولين بعد اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق