الخميس، 31 ديسمبر 2015

الاتحاد الدولي للصحفيين يطالب بفرض القوانين الدولية التي تحمي الصحفيين بعد عام دموي آخر

IFJ
        وفقا للتقرير السنوي الذي نشره الاتحاد الدولي للصحفيين اليوم فقد كان عام 2015 سنة مريرة أخرى للصحفيين، حيث قتل ما لا يقل عن 109 صحافي وإعلامي  نتيجة هجمات مقصودة، او تفجيرات، او لوقوعهم وسط تبادل نيران أثناءعملهم.
       واصدر الاتحاد الدولي للصحفيين قائمة (المرفقة) بأسماء 109 صحفيا واعلاميا قتلوا في 30 بلدا خلال عام 2015، بالاضافة الى اسماء ثلاثة اعلاميين قتلوا نتيجة حوادث او كوارث طبيعية. ولاحظ التقرير انحدارا صغيرا مقارنة بخسائر العام الماضي الذي شهد 118 عملية قتل و17 حادثاً.
وفد تصدرت الأمريكتين هذا العام القائمة مع 27 قتيلا. و يأتي الشرق الأوسط في المرتبة الثانية للسنة الثانية على التوالي، مع 25 حالة وفاة. وتأتي آسيا والمحيط الهادئ في المرتبة الثالثة ، مع 21 قتيل وهذا انخفاض مقارنة بعدد قتلى العام الماضي نتيجة انخفاض كبير في أعمال العنف في باكستان. اما أفريقيا فتأتي في المركز الرابع  مع 19 قتيلا، وتليها أوروبا مع 16قتيلا.
 وقد تميز عام 2015، بزيادة  الهجمات الإرهابية على الصحفيين.  فقد دفع الصحفيون الفرنسيون ثمنا باهظا عندما اغتال الإرهابيون في باريس الصحفيين العامليين في المجلة الساخرة "شارلي ابدو" الفرنسية. وفي الولايات المتحدة، قتل موظف اثنين من زملائه السابقين يعملان ل "TV WDBJ" في ولاية فرجينيا أمام جمهور التلفزيون خلال البث المباشر.
        وقال جيم بوملحة، رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين:"أكرر مرة أخرى ندائي إلى أمين عام الأمم المتحدة "بان كي مون" ورؤساء وكالات الأمم المتحدة لفرض القوانين الدولية التي تحمي الصحفيين. لقد صدمت الهجمات التي حصلت  في باريس العالم وأظهرت مأساة قتل الصحفيين في جميع أنحاء العالم،. إن الصحفيين هم المجموعة المهنية الوحيدة التي تدفع ثمنا باهظا لمجرد القيام بعملها. وللأسف، هناك العشرات من عمليات القتل التي لا نسمع عنها، فإذا لم يكن الصحفي معروفاً فإنه بالكاد يعرف الناس عن مقتله. وتتعرض الصحافة يوميا للخطر في مناطق كثيرة من العالم، حيث يستمر المتطرفون وأباطرة المخدرات والفصائل المتحاربة بقتل الصحفيين والإفلات من العقاب ". وقد سجل الاتحاد الدولي للصحفيين تصعيد للعنف في الشرق الأوسط، حيث يستهدف متطرفون الإعلاميين في العراق واليمن، وشهد ارتفاعاً في عمليات القتل والخطف، خصوصاً على الصحفيين المحليين الذين يغطون الاحداث في مدنهم ومجتمعاتهم والبلدانهم.
        واما في أمريكا اللاتينية، فكانت معظم عمليات القتل على أيدي أباطرة المخدرات الذين يعملون عبر الحدود، ولا سيما في المكسيك، حيث يدفع الصحفيون حياتهم ثمنا لتغطيتهم الاخبارية لقضايا مثل الفساد وتهريب المخدرات.
اما في آسيا والمحيط الهادئ، فقد شهد الاتحاد الدولي للصحفيين تصاعد الاعتداءات تجاه العاملين الإعلاميين في الفلبين التي شهدت مقتل 7 صحفيين، وهي بذلك تكون أخطر البلدان في المنطقة. ويشعر الاتحاد الدولي للصحفيين بقلق إزاء حالات الإفلات من العقاب لقتلة الصحفيين في البلاد.
         وقال الاتحاد الدولي للصحفيين، الذي سوف ينشر في يناير كانون الثاني 2016 النسخة الخامسة والعشرين لتقريره الكامل عن الصحفيين والإعلاميين الذين يقتلون سنويا، ان زخم السنوات الأخيرة لتعزيز حماية وسائل الإعلام يجب أن تؤدي إلى اتخاذ خطوات حقيقية للحد من العنف الواقع على الإعلاميين. ويحث الاتحاد الأمم المتحدة الى اتخاذ تدابير ملموسة في إطار خطة العمل من أجل سلامة الصحفيين http://www.unesco.org/new/en/communication-and-information/freedom-of-expression/safety-of-journalists/un-plan-of-action/ واتخاذ موقف صارم ضد الإفلات من العقاب في الجرائم التي ترتكب ضد الصحفيين. وقد قاد الاتحاد هذا العام حملة عالمية استمرت لثلاثة أسابيع لمحاسبة الحكومات التي تفشل في التحقيق في الجرائم ضد الصحفيين، الأمر الذي يؤدي إلى انحسار حرية التعبير في جميع أنحاء العالم http://www.ifj.org/campaigns/end-impunity-2015/
        وكان الاتحاد الدولي أيضا واحد من المبادرين الرئيسيين في انشاء منصة  الكترونية للمجلس الأوروبي لتعزيز حماية الصحافة وسلامة الصحفيين، وقد أصبحت هذه المنصة  واحدة من المراصد الأكثر ثقة لتسجيل الانتهاكات بحق الصحفيين في جميع أنحاء أوروبا، بهدف تعزيز سلامتهم .
 وقال أنتوني بلانجي، أمين عام الاتحاد الدولي للصحفيين:" أظهرت تقارير الاتحاد الدولي للصحفيين بوضوح على مدى السنوات الـ 25 الماضية  كيف اصبح الصحفيون والإعلاميون أهدافا سهلة بسبب الفشل في تنفيذ القوانين الوطنية والدولية التي من المفترض أن تحميهم. إن العنف الشديد الذي يستخدم ضد الإعلاميين هو بمثابة دعوة للاستيقاظ، وهي فرصة لاتخاذ إجراءات صارمة بخصوص فرض الأحكام القانونية. "
  إحصاءات سريعة للصحفيين والإعلاميين الذين قتلوا في عام 2015
في 31 ديسمبر عام 2015، سجل الاتحاد الدولي للصحفيين الحالات القتل التالية :
- جرائم القتل نتيجة استهداف مقصود، أو تفجيرات، أو تبادل لاطلاق النار: 109
- وفيات في حوادث أو كوارث طبيعية: 3
- إجمالي عدد الوفيات:112
 الدول التي شهدت أكبر عدد من جرائم القتل للصحفيين والعاملين الاعلاميين:
فرنسا: 11 ـ العراق: 10 اليمن: 10 ـ المكسيك: 8 ـ الهند 7 ـ الفلبين 7 ـ هندوراس 6 ـ جنوب سودان: 6 ـ سوريا 5

الخميس، 3 ديسمبر 2015

من أجل تحسيس القائمين على ملف الجالية ...


            في إطار أنشطتها الموازية نظم راديوكوم24 بتنسيق مع جمعيات المجتمع المغربي الأمريكي نيويورك نيوجرسي اللقاء الأول  لمناقشة موضوع " مجلس الجالية وعلاقته بمغاربة أمريكا  " مباشرة بعد الندوة التي نظمها المجلس بواشنطن  بتنسيق مع فريق العمل .   
        وفي كلمته الإفتتاحية رحب السيد حسن أبوعقيل " فاعل جمعوي " بالحضور الكريم معربا عن سروره بهذا اللقاء الذي ضم 9 جمعيات هدفها الإشتغال في إطار الدبلوماسية الموازية في شكل جماعي ومضاعفة   الجهود من أجل دعم الجمعيات بعضها البعض والرقي بالعمل الجمعوي النزيه وذي المصداقية . ومن جهة أخرى أكد السيد حسن أبوعقيل على أن أهمية اللقاء تتسم في هذا الجمع والتلاحم  بغية تحسيس مجلس الجالية بتواجد هذه المؤسسات على غرار باقي الأندية والجمعيات التي تلقى دعما من الجهات المكلفة بملف مغاربة الخارج كوزارة الجالية والهجرة حيث تتجلى المحسوبية والمحزوبية وصداقات مصلحية تثير غضب وسخط الجالية ويبقى الأمل في التصحيح والتقويم وتكريس تعليمات جلالة الملك التي أكدها في أكثر من خطاب ...
السيد حسن أبوعقيل تناول موضوع " مجلس الجالية " من خلال  اللبنات الأولى التي تمحورت حول تعليمات  ملك البلاد بخصوص استشارة مغاربة الخارج من قبل  المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان ، ثم تأسيس  مجلس الجالية بظهير شريف  ثم انكب على  الدور الإستشاري والتمثيلي لمجلس الجالية وأنشطته وأهدافه (...)
        برنامج اللقاء كان غنيا بالمدخلات القيمة  للجمعيات المنظمة  التي ميزها حضور السيد حميد بيشري عضو مجلس الجالية وعضو فريق العمل: الإدارة وحقوق المستعملين والسياسات العمومية  الذي كان ضيفا رئيسيا على " سكايب " وأبان عن  تجاوبه  بكل شفافية عن تساءلات المتدخلين والتي نحصرها فيما يلي تعميما للفائدة :

_ جمعية بيت المغربي الأمريكي التي مثلها رئيسها السيد عادل وليم  والذي وجه سؤالا هم :
   ماذا عن تفعيل الفصول الدستورية 16-17-18- 163
_
 جمعية " ماروك " والتي مثلها رئيسها السيد عبد المجيد فؤاد
 هل من حق الجالية تقديم ملتمس قانون  وماهي حظوظ قبوله والتصويت عليه ؟

_ رابطة مغاربة نيويورك ويمثلها رئيسها  السيد يوسف التسولي
   كيفية اختيار ممثلي المجلس من أمريكا  وما هي الشروط ؟

_ المجلس المغربي الأمريكي لتمكين المرأة وتمثلها رئيستها السيدة حفيظة بلاليوي
هل  مجلس الجالية مع تسييس مغاربة الخارج ؟

_ الجمعية المغربية الأمريكية نيوجرسي ويمثلها رئيسها السيد موحى حمو
ماهي علاقة المجلس  بمغاربة أمريكا ؟

_ جمعية الأندلس  ويمثلها رئيسها السيد أحمد السعداني

 
؟    ماهو موقف مجلس الجالية من لقاء  ميريلاند  الأخير

_ الشبكة المغربية الأمريكية للكفاءات ويمثلها رئيسها السيد محمد بوجدير
  ماذا قدم المجلس مند تأسيسه  لمغاربة أمريكا  ؟

_ المجتمع المغربي الأمريكي ويمثلها السيد حمزة الرحيوي
ما هو رأي مجلس الجالية في مشروعي قانون مجلس الجالية المقدم من طرف الأغلبية ؟
         والجميل في هذا اللقاء أن الحضور الكريم شارك في المناقشة والمساهمة بالرأي  وأعطيت له الفرصة للإستفسارات التي كان السيد حميد بيشري يتلقاها ويجيب عنها بصدر رحب لايخلو من مصداقية واحترام وتقدير .
وفي الأخير صدر بيان ختامي على شاكلة  ملتمس تشريعي ستتقدم به الجمعيات المنظمة لهذا اللقاء إلى البرلمان المغربي وفقا للفصل 14 من دستور2011  .

أبونوفل – أمريكا

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

الدورة التاسعة لمهرجان تموايت


         
           تعلن جمعية أنفاس ورزازات للبحث الفني والثقافي عن تنظيم  الدورة التاسعة لمهرجان تموايت/ الملتقى الشعري والموسيقي لمدينة ورزازات ،  في الفترة الممتدة ما بين 5 و8 نونبر 2015 بقصرالمؤتمرات بمدينة ورزازات.
          وتشكل الدورة التاسعة لمهرجان تموايت مناسبة جديدة في صيرورة العمل الثقافي والفني الذي تنهجه جمعية أنفاس مند تأسيسها ومحطة جديدة  للانفتاح المجتمعي على الفعاليات الثقافية والفنية وإبراز الغنى الثقافي الذي تزخر به المملكة المغربية وإعلاء قيم التسامح والمساهمة في إبراز القدرات الغنية التي تزخر بها ساكنة و مدينة ورزازات ، وأيضا العمل على الترويج للمنتوجات السياحية والثقافية للمنطقة.
تنظم هده الدورة بشراكة مع المجلس الإقليمي والمجلس البلدي لمدينة ورزازات  وبدعم من:  وزارة الثقافة، مؤسسة مناجم، المجلس الإقليمي للسياحة، الوكالة الوطنية لدعم مناطق الواحات وشجر الأركان والنسيج الجمعوي للتنمية بورزازات .
وستعرف هذه الدورة  إحياء ثلات عروض غنائية موسيقية وشعرية متكاملة :
5 نونبر: سيتم تقديم  عرض "قنطرة " برئاسة الفنان عبد المجيد بقاس ومشاركة الزجالين احمد المسيح و حفيظ اللمثوني
6 نونبر: سيلتقي جمهور المدينة  مع الفنان رشيد زروال والفنانة سامية أحمد والزجال ميمون الغازي
7 نونبر: سيكون اللقاء مع الفنانة سعيدة فكري ، وسيتم كذلك تقديم عرض موسيقي غنائي للفنان لحسن خوختو
         الدورة التاسعة، ستعرف كذلك مشاركة كل من الشعراء والشاعرات: جميلة أبيتار وميمون الغازي من فرنسا ، ماجدة الظاهري من تونس ، ومن المغرب كل من ادريس الملياني، بوعزة الصنعاوي ، محمد وكرار، حميدة بلبالي، ادريس الرقيبي، حياة بوترفاس، حفيظ اللمتوني، فاطمة شهيد ،نزيهة أباكريم وفعاليات أخرى .
الفن التشكيلي سيكون حاضرا ضمن فعاليات مهرجان تموايت، وذلك من خلال المعرض الذي سيشارك ثلة من  الفنانين التشكيلين من بينهم: كي دومون من فرنسا  السعدية موقرين وخديجة الطياوي ومحمد بن يحيى وعمر أقصبي من المغرب
      بالموازاة مع  هذا البرنامج،  سيتم تنظيم  لقاءات مفتوحة بين الشعراء والأدباء و  تلاميد وطلاب المؤسسات التعليمية والثانويات التأهيلية  والكلية المتعددة التخصصات، ودلك بهدف  مد جسور التواصل والحوار بين المبدعين وشباب مدينة ورزازات.
المسرح سيكون حاضر بدوره في مهرجان تماوايت ، من خلال تقديم عرض مسرحي للأطفال تحت عنوان: "رحلة القراصنة"   من إخراج عبد الله هجاح وتقديم فرقة diées’art   من الدار البيضاء،
                              
                              

الأحد، 4 أكتوبر 2015

تأمّلات في الماركسية ومعنى اليسار في عصرنا ..

عصام الخفاجي

 


           تبدو كلمة "الماركسية"، ناهيك عن "الشيوعية" مفردتين تنتميان إلى حقل الدراسات الأكاديمية عن تاريخ الفكر السياسي/ الفلسفي/ الإقتصادي، مثلها مثل دراستنا لأفكار آدم سمث وديفد ريكاردو وجون ستيوارت مل في الإقتصاد وجون لوك وتوماس هوبز وفولتير وجان جاك روسو في الفكر السياسي. إهتمام الباحثين بالماركسية لم يخفت إلا موقتا. فلم يكد يمض عام على سقوط النظام الشيوعي الروسي قبل ربع قرن حتى كتب يورغن هابرماس، أحد أبرز الفلاسفة المعاصرين، عملا شديد التعاطف يرى أن "شبح ماركس" سيظل مخيّما على تفكيرنا .
         لكن ثمة مفارقة هنا. فالماركسية الباقية كعمل نظري ماتت أو تكاد حين ننظر إليها كمرجعية للعمل السياسي أو كبرنامج تهتدي به الحركات السياسية الفاعلة في زمننا. وستتركّز مداخلتي التقديمية لهذا الحوار على هذا الجانب. والفرضية الجوهرية التي أنطلق منها هي أن الماركسية فلسفة وفكر نقدي تاريخي وتحليل عميق للتاريخ لما هو قائم وليست برنامجا سياسيا بنائيا لما يجب أن يقوم.
حين نتعامل مع الماركسية في شكلها الأول، فإنها تساعدنا على فهم الكثير من الظواهر والآليات التي شكّلت وتشكّل عالمنا. وأتعمد هنا استخدام كلمة "تساعد" لكي لا يفهم القارئ أنني أراها الفلسفة الوحيدة القادرة على تفسير كل الظواهر. الماركسية في شكلها الأول تجيب على أسئلة جوهرية تتعلّق بالمديات البعيدة للتطور البشري: جوهر الرأسمالية، طبيعة التشكيلات الإجتماعية السابقة (مع التحفّظ على قوالب "أنماط الإنتاج" المتعاقبة عبر التاريخ). وهي منهج يمكن تطبيقه حتى لتصحيح أخطاء في تطبيق ماركس لمنهجه إما لأن كشوف القرن العشرين بيّنت قصورها أو خطأها، أو لأن ماركس خالف منهجه تحت تأثير أحلامه الثورية، كما سأبين.
أما التعامل مع الماركسية كبرنامج سياسي أو كدليل لعمل الثوريين في الأمد القصير والمتوسط أو حتى للتنبؤ به، فقد كانت له عواقب وخيمة على اليسار من السخف القول بأنها نتيجة انحراف هذا القائد الماركسي أو ذاك عن "الماركسية الصحيحة". فقد أستخدم ماركس نفسه ماركسيته لتبرير أحلامه الثورية لكن مجرى التاريخ أبى أن يتغيّر لإرضاء أحلام ماركس.
ينطبق ماقلت عن مخاطر وعقم التعامل مع الماركسية كبرنامج سياسي على كل الفلسفات الكبرى، أي الفلسفات التي تسعى إلى تفسير العالم الراهن والتاريخ البشري وتقديم صورة المستقبل المنشود وشكل التراصف الإجتماعي بين البشر. والأديان هي في مقدمة تلك الفلسفات الكبرى التي يتصارع مناضلو حركاتها السياسية على من يعبّر عن "إرادة الله الحقة" ويطبّق تعاليم كتبه ويرون في الآخرين منحرفين أو مسيئين لفهم تلك التعاليم. ويسري الأمر على الفلسفات القومية وغيرها.

      دعوني أطرح أمثلة ملموسة على سخف اشتقاق السياسة من نظرية كبرى كالماركسية. كيف نصوغ برنامج عمل ماركسي نواجه به الوضع العربي القائم الآن؟ الأمثلة التالية كلّها يمكن اشتقاقها من كتابات ماركس ولينين وممارستهما السياسية:
- برنامج أول: الماركسية تؤمن بضرورة وقوف القوى الديمقراطية بوجه الدكتاتورية، وبالتالي فعلينا التحالف مع اللبراليين ضد الدكتاتورية الإسلامية.
- برنامج ثان: الماركسية تؤكد على أن الأولوية هي لمجابهة الإمبريالية والصهيونية، وعلينا بالتالي أن نوحّد جهودنا مع النظام "الوطني التقدّمي" مهما كانت سياسته الداخلية.
- برنامج ثالث: علينا التحالف مع القوى ذات القواعد الشعبية التي تقدّم خدمات للفقراء حتى لو كانت إسلامية.
- برنامج رابع: علينا رسم خط فاصل بيننا وبين أعدائنا الطبقيين واللبراليون والإسلاميون هم أعداء طبقيون.
- برنامج خامس: علينا الإستفادة من الزخم الجماهيري وعدم التوقّف عند مطالب الديمقراطية.
أتوقّع أن يردّ بعض القرّاء بالقول أن الأحزاب الشيوعية والماركسية المشرقية لم تعد تبرر مواقفها وسياساتها بالإستناد إلى ماقاله ماركس أو أتباعه. لكن القضية لا تكمن هنا، بل في أن قضايا كبرى لفهم الواقع المعاصر لاتزال تستمد مرجعيتها، وإن بشكل مضمر، من الماركسية بشتّى تلاوينها.
1. الموقف من الرأسمالية كنظام اجتماعي اقتصادي

        من إبداعات ماركس النظرية التي لم يعنى بها "أتباعه" ولووا عنقها، بل كان هو من لوى عنقها حين مارس العمل الثوري، نصّ شديد الإهمية يلخّص في الواقع فلسفته المادية التاريخية ورؤيته لدورة حياة النظم الإجتماعية – الإقتصادية ومنها الرأسمالية. في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي" (1859) الذي كان تمهيدا لرأس المال (نشر جزأه الأول عام 1867):
لا يتحطّم أي نظام اجتماعي قط قبل أن يكتمل تطوّر كل قوى الإنتاج التي تتناسب معه. ولا يمكن لعلاقات إنتاج أرقى قط أن تحل محل العلاقات القديمة قبل أن تنضج الشروط المادية لوجودها ضمن إطار المجتمع القديم. ذلك أن البشرية لا تحدد مهمّات لها إلا إذا كانت قادرة على تحقيقها".
كتب ماركس هذا النص المهم وهو الذي انصبّت كتابات له لاحصر لها على إبراز ثورية النظام الرأسمالي. ثورية بمعنى أنها أول نظام اجتماعي في التاريخ استطاع أن يدفع التطور بمديات لا سابق لها، وأنه أول نظام في التاريخ استطاع أن يتجاوز الحدود القومية ويصبح نظاما عالميا. وكان يحلّل طبيعة النظام الرأسمالي وهو يرى ثورة تكنولوجيا الطاقة البخارية تجري أمام عينيه لتفتح آفاقا هائلة لمزيد من التطور في ظل الرأسمالية. ولعل ماركس هو أكثر ناقد للرأسمالية استطاع أن يبرز ثوريتها وتقدميّتها في الوقت نفسه.
ومع هذا، فإن ماركس الذي كتب كل هذا هو ماركس نفسه الذي زيّف رؤيته حين كتب في "البيان الشيوعي" عام 1848 عن شبح الشيوعية الذي يطارد أوربا وعن الرأسمالية التي تحفر قبرها بيدها وعن الثورة الإشتراكية القادمة. ومن المستحيل أنه كان يرى علميا أن الرأسمالية قد استنفدت كل إمكانياتها على التطور. كان في الحالة الأخيرة ثوريا يستعجل رؤية حلمه يتحقق. كانت الرأسمالية وظلّت تحقق انجازات علمية واقتصادية هائلة فيما الماركسيون يتحدّثون عن "الأزمة العامة للرأسمالية" وعن الإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية وآخرها مثيرين سخرية الناس.
تخلّت معظم الحركات الماركسية في منطقتنا عن هدف القيام بثورة اجتماعية تقلب النظام الإجتماعي- الإقتصادي القائم، لكنها ظلّت خجولة، حذرة من الإعتراف بثورية النظام الرأسمالي. والحاجة إلى دفع هذا النظام للكشف عن كل جوانبه الثورية هي أكثر إلحاحا في بلداننا مما هي عليه في البلدان المتقدمة، لأن ما يحصل في بلداننا اليوم ليس تطوّرا رأسماليا بل هو تطوّر، إن صحّت تسميته تطوّرا، قائم على الريع. الأحزاب الشيوعية والماركسية تتحدّث باستحياء عن "ضرورة فسح المجال للقطاع الخاص". النظام الرأسمالي كنظام لا كمشاريع هنا وهناك، يرتبط في أذهان الشيوعيين بالإستغلال فقط، وهو قائم على الإستغلال حقا. ولكن "الديالكتيك" الماركسي نفسه يقوم على أن الوصول إلى مجتمع أكثر عدالة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تثوير التكنولوجيا وزيادة الثروة المنتجة لكي يرتقي البشر بعد إشباع حاجاتهم إلى طرح مطالب لم تكن تخطر بالبال سابقا كالمطالب البيئية وحظر عمل الأطفال ومقاطعة المؤسسات الأجنبية التي تشغّلهم حتى خارج بلدانهم وسن القوانين المانعة للإحتكار وتحقيق المساواة التامة بين الجنسين وغيرها. والتظاهر بغير ذلك، والإعتقاد بأن ملكية الدولة وسيطرتها على الإقتصاد تمثّل نظاما أكثر تفوّقا يغالط الوقائع حيث أنتجت التجربة السوفيتية مجتمعا طبقيا في الوقت الذي عجزت فيه عن دفع التطور بعد بضعة عقود من انتصار ثورتها.
اليسار في بلداننا يطالب بسيادة القانون، لكنه لم يتنبّه أو أنه لا يريد التنبّه إلى أن سيادة القانون حقا وفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لم تتحقق، ولايمكن أن تتحقق، إلا في ظل الرأسمالية لا لأن الرأسماليين أكثر حبا للعدالة من غيرهم، بل لأن التطور الرأسمالي لا يمكن أن يتحقق إلا حين يأمن الرأسمالي من تعرض مشاريعه للنهب ومن تعرّضه للإبتزاز من جانب هذا المسؤول أو ذاك وأن ثمة مؤسسة يستطيع اللجوء إليها إن حصل تعسّف بحقه. لكن مبدأ سيادة القانون متى ما سرى فإنه لن يتوقّف عند حدود حماية المصالح الرأسمالية، بل لا بد أن يحمي الآخرين من عسف الرأسمالي، وثمة أمثلة لاحصر لها عن الحالات التي حكم فيها القضاء في البلدان المتطورة لصالح المواطنين ضد الرأسماليين.
على اليسار أن يتأمل جديا في التجربة السوفييتة المروّعة لا من منظار إدانة الدكتاتورية فقط، بل من خلال النظر إلى الفساد وغياب القانون ومهزلة فصل السلطات الشكلية في تلك التجارب وهي ليست نتائج أخطاء أو انحرافات بل هي في صلب هذا الشكل من الأنظمة، وفي صلب نظرة ماركس إلى دكتاتورية البروليتاريا التي تنهي "الفصل الشكلي" بين سلطات كلها في خدمة الرأسمالية، وفي صلب النظرة إلى الدولة ك"هيأة أركان للطبقة الرأسمالية".
ما بديل اليسار في شكله القائم عربيا اليوم، ومنذ عقود في الواقع، عن النظام الرأسمالي؟ الإشتراكية؟ هل بلور مفهوما بديلا عن المفهوم السوفييتي لها: ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وحكم الحزب الواحد وتحويل المواطن إلى جزء من قطيع؟ لماذا لم تستطع تلك التجربة أن تقدّم نموذج حياة أكثر جاذبية للناس، بما فيهم الطبقة العاملة، من نموذج الحياة الرأسمالية؟ لماذا لا تصوّت نسبة ولو صغيرة من العمال إلى الحزب الشيوعي في انتخابات الغرب إلا في أوقات الأزمات الكبرى؟
فقط في ظل انطلاق التطور الرأسمالي يمكن لليسار أن يخوض نضالات لحماية العاملين ورفع مستواهم المعيشي.
فقط في ظل الإعتراف بأن التطور الرأسمالي مرغوب به يمكن المطالبة بأن يكون للعاملين نسبة من أسهم المؤسسات التي تجري خصخصتها، ولابد من تأييد الخصخصة الخاضعة لقوانين صارمة تضمن انطلاق تلك المؤسسات لزيادة الإنتاج وتطوير المعارف والتقنيات.
فقط في ظل التطور الرأسمالي يتحرّر الفرد من الإعتماد على عشيرته أو طائفته أو دينه أو عرقه ويدخل عالم الإقتصاد والسياسة والمجتمع كفرد متساو في الحقوق والواجبات مع غيره. فقط في ظل هذا الشرط تتبلور علاقات قائمة على الإنتماء إلى بيئة نشاط متشابهة أو إلى أي علاقات يقرّرها الفرد بملء رغبته الحرة.
2. الطبقة العاملة
          بما أن كل الأحزاب الشيوعية والماركسية تنطلق من نص يشبه آية قرآنية تعطي للطبقة العاملة الدور الطليعي والقيادي الدور الأهم في عملية النضال من أجل التقدم وتحقيق العدالة الإجتماعية، وبما أن كل الأحزاب، أو معظمها على الأقل ترى نفسها أحزابا للطبقة العاملة، علينا أن نطرح مجموعة من الأسئلة بعقل مفتوح لاينطلق من عبارات الإيمان بل من تفحّص الوقائع الراهنة ووقائع التاريخ:
- هل المنجزات التي تحققت للطبقات العاملة بأجر في العالم المتقدم وفي كثير من بلداننا كانت نتاج نضال الشيوعيين؟ أم أن الإشتراكيين الديمقراطيين في الغرب كانوا هم من دفع بتلك المطالب إلى الحد الذي يمكن تحقيقه في ظل الرأسمالية وتجاوب العاملون بأجر مع تلك المطالب في معظم الحالات وفي معظم قطاعاتهم؟ وهل أن ماتحقق للفئات العاملة بأجر كان نتيجة ضغط الشيوعيين أم أن نظم الريع القومية والنظم القومية بدءا من عبد الناصر هي التي أمّنت خنوع هؤلاء لها عبر التشغيل في القطاع العام المترهل الذي يقدسه الشيوعيون؟
- أين تكمن المصالح الجوهرية للطبقات العاملة بأجر؟ في القضاء على الرأسمالية أم في تحسين شروط حياتها في ظل الرأسمالية وبالتالي في تطوير الرأسمالية لكي تتطور مصالحها هي؟
- هل تأمل اليسار في حدث تاريخي له دلالة عميقة هو أن الثورة العمالية الوحيدة التي انتصرت كانت ثورة لم تتطلّب "طليعة تغرس الوعي في صفوف العمال من خارجها" كما ترى الماركسية واللينينية في أحزابها بل قادها العمال ونقاباتهم وانتصروا من دون هذا المعلم؟ أقصد بذلك الثورة العمالية في بولونيا ضد النظام الدولتي وكانت فاتحة ثورات أوربا الشرقية التي انتهت بالقضاء على ذلك النظام؟ ثورة أيدتها الغالبية الساحقة من مواطنيها وما يزال الشيوعيون حائرين في توصيف تلك الثورات أو أنهم يلجأون إلى الأسوأ وهو اعتبار ما أجمعت عليه الشعوب "ثورة مضادة"؟
- هل تعرف مجموعة، أو مجاميع، من غير العمال، من المثقفين البرجوازيين الصغار بل من محترفين لم ينخرطوا في الحياة الحقيقية بل لا يعرفون شيئا عنها وينتظمون في أحزاب يسارية مصالح العمال أكثر من العمال أنفسهم؟ وهل إذا انضم إلى تلك الأحزاب نفر من العمال فإن الحزب سيقترب أكثر من معرفة مصالحهم؟ أم أن قراءة الماركسية التي تولي العمال الدور القيادي في عملية الصراع تؤهلهم للقول المتعالي والمتعجرف ب: أولا: أن العمال لا يعرفون مصالحهم حقا، ثانيا: أنهم بحاجة إلى من يغرس فيهم الوعي من خارج صفوفهم، حسب لينين؟
- ولو نظرنا إلى ماسبق للاحظنا بأن كل الماركسيات الثورية: اللينينية، الماويّة، التروتسكية، وغيرها بما فيها منظّر الثورات الطلاّبية لليسار الجديد هربرت ماركوزة تشترك في احتقار البشر الذين تدّعي تمثيلهم، اي الطبقة العاملة. لأنهم "لن يعرفوا مصالحهم من دوننا".
من هذا التصور الخطير، لا من الإنحراف عن ماركس، يكمن أساس الدكتاتورية. هذا التصور هو الذي يسمح، بل يحتّم، بقمع من لايعي "مصالح الطبقة" كما يراها قادة الحزب تحت مسمّيات عدّة: انحراف برجوازي، انحراف يميني، انحراف يساري... إلخ.
- وفكرة الطليعة، أيا كانت مسمّياتها، هي أساس الحركات القائمة على فلسفات كبرى. حركات الإسلام السياسي تقول أن المسلمين يمارسون الشعائر لكنهم لايدركون معنى الإسلام وعلينا بالتالي إرشادهم إلى معنى الإسلام الحقيقي. ومن هذا تنفجر صراعاتهم المماثلة لما ذكرت
أعلاه عن الموقف من التطور الرأسمالي و"موعد" الثورة الإشتراكية. هل نرشد الناس حتى يقتنعوا بالإسلام ثم نستلم السلطة السياسية (الأخوان المسلمون)؟ أم نستلم السلطة ومن خلالها نهدي الناس إلى الإسلام الحقيقي (الجهاديون)؟
باختصار: قيم اليسار، مذ بدأ استخدام هذا التعبير مع الثورة الفرنسية، تلخّصت في مبادئ: التقدّم العلمي والإقتصادي، العدالة الإجتماعية والمساواة والديمقراطية. قيم تغيرت مرجعيتها الفكرية والنظرية طوال هذا التاريخ، وكان لليسار، بالمعنى الذي لخّصت قيمه دور كبير في دفع عجلة التقدم والضغط من أجل تحقيق المزيد من العدالة الإجتماعية، وتعميق الديمقراطية في البلدان الرأسمالية من خلال العمل على إشراك الفقراء والنساء وكافة الفئات المستضعفة في الحياة السياسية وأجهزة الحكم وفرض نظم تعليم لاتحابي الأغنياء وضمان اجتماعي وصحّي للعاطلين وكثير غيرها من المكاسب.
ولكن علينا الإعتراف بأن اليسار الشيوعي لم يكن الفاعل الأساس في تحقيق قيم اليسار هذه لاسيما خلال العقود الأخيرة, وقد أصدم القارئ إن قلت بأن الحركات الماركسية المتشدّدة والطبقة العاملة التقليدية في الغرب باتت قوة رجعية معادية لقيم اليسار. فهي تتّخذ مواقف تكاد تكون متطابقة مع مواقف اليمين المتطرف. ولهذا فليس غريبا أن نجد أن جزءا كبيرا من القاعدة الإجتماعية لحركات اليمين المتطرف تتكون من العمال. إنهم ضد فتح الحدود القومية لأن هذا يهدد بأن يأخذ المهاجرون وظائفهم لأنهم يقبلون بأجور أقل. إن "نضالهم" لرفع إجورهم يتطلّب إبقاء هؤلاء المهاجرين عاطلين لا مورد رزق لديهم. إنهم ضد انتقال رأس المال للإستثمار في بلدان فقيرة بدافع تحقيق أرباح أعلى بالطبع لأن هذا يحرمهم من فرص العمل حتى وإن أدّى ذلك إلى ارتفاع مستويات معيشة الصينيين والهنود وعمال أمريكا اللاتينية وغيرها. وفي كل هذا يتّكئون على تقديس الدولة القومية وسيادتها، مبرهنين في الواقع على أن خطأ الفكرة الماركسية عن وحدة عمال العالم في مقابل تجاوز رأس المال حدود الدولة القومية علما أن رأس المال هذا ليس موحّد المصالح مثله مثل العمال.
أخيرا وربما كانت هذه هي القضية الأهم عند التأمل في موضوعة دور الطبقة العاملة في منطقتنا: أين هي الطبقة العاملة في بلداننا المشرقية؟ هي نقطة في بحر من الموظفين الحكوميين والهامشيين والعاطلين والعاملين المستقلين كأصحاب الدكاكين والمهنيين العاملين لحسابهم؟ بل أن العمال في قطاع الدولة هم موظفون لا عمال. وهذا يسري حتى على دولة كمصر التي انتقلت منذ أكثر من أربعين عاما من النظام الدولتي إلى نظام قليل العلاقة بالرأسمالية.
بم يطالب العمال في مثل هذه الحالة؟ بمزيد من خلق الوظائف في قطاع مترهّل وفاسد هو جهاز الدولة، بتثبيتهم كموظّفين لدى الدولة بدل تشغيلهم بعقود موقتة. ومن دون إنطلاق عملية تطور رأسمالي حقيقي، ما مصلحة العمال في النضال من أجل القضاء على البطالة وهو الذي يعني دخول "جيش العمل الإحتياطي" حسب تعبير ماركس إلى العملية الإنتاجية مما يهدّد بخفض مستويات أجورهم وقوتهم التساومية بوجه الرأسماليين؟

3. العولمة والدولة القومية ومصالح الشعوب:

الحديث المتكرر عن وحدة مصالح الطبقة العاملة حول العالم، كان في حقيقته حديثا عن وحدة مصالح الأحزاب الشيوعية حول العالم كما بيّنت أعلاه.
كان مفهوما ومبرّرا أن يدافع الشيوعيون، مثلهم مثل غالبية أبناء شعوبهم عن فكرة استقلال بلدانهم عن الإستعمار. وكان طبيعيا وربما مطلوبا الوقوف بوجه محاولات قلب نظم حكمهم الوطني حين كانت تلك النظم تتخذ مواقف تتعارض مع مصالح شعوبهم. لكن هذا تحول مع الزمن إلى تقديس لنظم ظلت تخلق أعداءا خارجيين لأن هذا هو الطريق الأمثل لتبرير استبدادها وفشلها الذريع في تطوير مجتمعاتها وفسادها. وظل الشيوعيون وقطاعات واسعة من اليسار تنفخ في هذه الفكرة حتى بعد أن تحول الإستعمار إلى ماض وحتى حين باتت النظم التي يدافعون عنها هي المستعمر. أبرز أمثلة ذلك دعم (أو سكوت) معظم اليسار العربي والعالمي لنظام البعث العراقي وهو يستعمر الكويت ويدمّر كردستان ودعمه (أو سكوته) لنظام الأسد وهو يستعمر لبنان ودعم قطاعات واسعة منه (اوسكوتها) اليوم عن الأسد المدمر لشعبه بوصفه ضمن "محور الصمود" بوجه إسرائيل. وقبل كل هذا بعقود، دعم عبد الناصر في استعماره لسوريا باسم الوحدة العربية.
واليوم، لاتريد قطاعات واسعة من اليسار النظر إلى مفاعيل العولمة من خلال الدراسات الإحصائية المعمّقة عن دورها في صعود دول كانت متخلّفة إلى مصاف الدول المتطورة أو تكاد: الصين، الهند، البرازيل، تركيا وغيرها وفي ارتفاع مستويات معيشة عدد لاحصر له من البلدان الأخرى. إنها لاترى فيها غير استعمار بثوب جديد لأن منطقتنا لم تستفد منها بسبب نظم حكمها الفاسدة.
أختم مداخلتي، المطوّلة، بعرض رؤيتي لمعنى اليسار في عصرنا:
- اليسار في رأيي هو الدفاع عن قيم التقدّم، الديمقراطية، المساواة في كل المجالات، والعدالة الإجتماعية.
- واليسار إذن ليس حركة طبقية. فهو يضم رأسماليين مثل بل غيتس مؤسس شركة مايكرو سوفت التي ثوّرت التواصل بين البشر وسهّلت حصول الهندي والأفريقي على المعرفة وعرّفتهم بكيفية رفع مستويات معيشتهم، مثلما يضم مثقفين وعمّالا تقدميين ومهنيين وطلابا، لا لأنهم "انسلخوا عن مصالحهم الطبقية" بل لأن مصالحهم تتوافق مع تلك القيم بهذه الدرجة أو تلك.
- وعليه، فإن فكرة الحزب السياسي اليساري قد ماتت أو أنها لم تعد قادرة على خدمة قيم اليسار بالمعنى الذي أشرت إليه. ثمة حاجة ضرورية لحركة واسعة ذات هيكل تنظيمي مرن تضم كل تلك الأطياف. حركة لا يتحايل الشيوعيون على الإقرار بها وهم حالمون بأن يكونوا عمودها الفقري ولا يدركون أن عزوف الناس عن مثل هذه الحركات يعود إلى رفضهم لهذا الحلم. حركة يتعهد الشيوعيون بحل هياكلهم ودعوة من يريد من أعضائهم إلى الإنخراط فيها. حركة لا تعتمد توجيهات سرّية للأعضاء بالتمترس ضمنها لتوجيهها.
على اليسار أن يتراجع عن خجله ويعلن أن الرأسمالية ونظام الإقتصاد الحر تلعب دورا ثوريا إن ساهمت في تطوير الإقتصاد ونشرت المعرفة التكنولوجية ورفعت البؤس عن قطاعات واسعة من المواطنين. عليهم الإعتراف بأن تقديس الدولة وملكيتها للمشاريع الإقتصادية لم، ولن، يؤد إلاّ إلى الفساد والتخلّف وانعدام الكفاءة. عليهم الإنتقال من التشكيك الأعمى بكل ماهو غربي ودراسة كل سياسة وموقف وممارسة تصدر عن تلك الدول، مثلما عليهم أن يدرسوا مواقف دول الإستعمار الجديد الصينية والروسية لتأييد ما يقترب من تحقيق تلك القيم ومعارضة ما يعاديها.
ثمة قطاعات من اليسار المشرقي تقترب من تلك المواقف بخجل، وثمة أخرى تمر بعملية موت بطئ أو أنها ماتت ولم يبق منها غير هياكل مؤسسية تناطح الصخور ولا تريد أن تدرك أن الشيوعية بشكلها الكلاسيكي باتت حركة ونظرية رجعية معادية للتقدم.

 عصام الخفاجي