الاثنين، 11 مارس 2013

حتى لا ننسى محمد خير الدين ..


جسم سالب
"محمّد خير الدّين"



ترجمة وتقديم: مبارك وساط
         من بين أعمال خير الدّين (1941-1995): في مجال الرّواية: أغادير ( 1967)، 'جِسْمٌ سالب، يليه: قِصّة إله طيّب' ( سُويْ، 1968)، أنا الحامِـض ( سُوي، 1970)، النّبّاش ( سُويْ، 1973)، رائحة الوَدَك (سوي، 1976)، أسطورة أغونشيش وحياتُه ( سُويْ، 1984)... وفي نطاق الشّعر: شمس عنكبوتيّة ( سُويْ، 1969)، هذا المغرب (سُوي، 1975)، انبعاثُ الأزهار البرّيّة ( منشورات الستوكي، الرّباط، 1981)،... وبعد وفاتِه، ظهرَتْ لهُ أعمالٌ لمْ تكنْ بَعْدُ قدْ نُشِرتْ، من بينها رواية بعنوان: 'كان هنالك زوجان مُسِنّان سعيدان' (سوي، 2001)، ومجموعة قصص: 'الدّفن ومقطوعات نثريّة أخرى وجيزة' (منشورات وِليم بليك والشّركاء، 2009)...
في مقدّمته لِ'شمس عنكبوتية' (في طبعتها الجديدة، الصّادرة ضمن سلسلة شعر/ غاليمار، 2009)، يقول الشّاعر جان بول ميشال - وهو بالمناسبة صاحب دار نشر William Blake and Co - عن خير الدّين، إنّ الكتابة نَصَّبَتْه ' بطلا للعُزلة أمام كلّ الثّقافـات... محاوِرا لكلّ اللغات...'. ويقول أيضا: ' لم أعهَدْ لديْهِ ضغينةً قَطّ'.
مقتطفات:
         فيما يلي، المقاطع الأولى من نصّ روائي بنفس العنوان للكاتب المغربي الفرنكوفوني محمّد خير الدّين (1941- 1995). وقد صدر ضمن كتاب يضمّ روايتين قصيرتين: 'جسم سالب'، يليه: 'قصّة إله طيّب' (منشورات سوي، 1968)-
يَدفعُونك بقوّة، يأمرونك بالدّخول، وفي النّهاية، يُحاولون استمالَتك، بل وحتّى حملَك على الاعتقاد بأنّك في بيتِك، لكنّهم يُصيبونك فيما بين الضُّلوع بِما يلفظون من كلمات فتبدأ في البحث عن الخيط الذي تَظُنّ للحظة أنّه يربطُ بينك وبين شيء ما؛ غير أنّك لا تعثُرُ على أيّ خيط وبالكاد رُبّما تستذكرُ شارعا أو وجها يَبْقى، في نهاية المطاف، مجهولا من قِبلك كلية؛ بالكاد قد تستذكرُ ذاتك بعضَ الشّيء. إنّهَا لحَالٌ تطول، حالٌ مُنْهِكة، مُخيفة. فكما لو أنّهم حبسوك في دهليز أسْفلَ العالمِ الذي عِشْتَ فيه وأحبَبْت، والذي لا يتبقّى منه شيء بمُجرّد أن يُغادروك. لا شيء. الشّارع: لا يتعلّقُ الأمر بشارع عاديٍّ، بأكشاكــه ومحالّه حيْثُ تباعُ الملابِس النّسائية أو الموادّ الغذائية، بمارّتِهِ المُتعجّلين الذين يُخفون بكامل الحِرْص خلف ملامحهم، وبِكلّ ما هم عليه من وقار، لحظاتٍ أخرى، يُقَلّبونها مازجين موادَّ حيّة هم وحدهُم المُتحكّمون في ديمومتها. الشّارع، أعني ذلك الذي عِشْتُ فيه، لا يُشْبِه باقي شوارع المدينة. لقد بدا لي فارغا دوما، ومن دون أهمّية، ولم أفكّر قطّ في مصائر ساكنيه. رغم هذا، ففيه عِشْتُ: أذكرُ قريبا وأصدقاءَ، وشَخْصاً ماعُدتُ أستطيعُ استحضار تقاطيع جسده أو ميولاته أو سِيماهُ، لكنّ أبسط ما يتعلّقُ به يبقى قادِرا على بَعثِ وخزة حارقة في قلبي، كأنّها لسعة زنبور.
لا شَكّ أنّها كانت امرأة. كنتُ قد نِمتُ طول الليل. ذلك كان تمهيدا للهرب، إن لم يكن الهربَ نفسَه. لكنّ مُواكبة النّاسِ لي على امتداد مساري كانتْ تُضايِقني. فَما كنتُ بَعْدُ أنتمي إليهمْ.
الشّارع. الهواء. السُّحُب السّوداء الكبيرة. وهذه الأرض التي يُحِبّها المرء وتُعَذِّبُه.
كان ثمّة شيءٌ ما في صدري. فأرٌ، ربّما. فيهِ كنتُ، بمرور الزّمن، أتكاثَف. لمْ أكنْ أعلم ما الذي كنتُه ولا ما كنتُ عليه في البدء. هنا أو في أيّ صَقع، ما من وجود لمكان مُحَدّد المعالم بالنّسبةِ إليّ. ثمّة، مع هذا، أناس يتمكّنون، في النّهاية، من أن يعرفوا، فهم يباشِرون تحقيقات حول أنفسهم، والواحِدُ منهم يُسَمَّى شجرة أو ذبابة، كلبا أو حِرذونا، لكنْ ليس حجرا أو صلصالا أو حجرا مُتبلِّرا. هؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا يتبعونني، والأرض بما عليها كانتْ تتبعُني، مُنتصبةَ الأشواك، ذاتَ صرير، صفراءَ، زرقاءَ، خضراء، رماديةً، ما أدراني! كلُّ الأرض كانتْ تجتاحُني، موجةً ترفعُك إليها دوّامات منبجسة من زوابع بحريّة وسماءٌ تُبدي لك من الشمس طرَفًا فتَعْمدُ، أنتَ، في الأخير، إلى التّمسُّك به.
ذاك كانَ يوما ماطِرا طبعا.
كان المطر قد اختفى وكبُرَتْ عُجَر الموت التي خلّفها في نباتات السُّعادَى ذات الجذور المُتوحِّلة وفي أخرى غيرِها ليس لها أسمـاء ولا أنساغ. وها هو يعود وقد اشتدّ فيُعَنِّفُ في دمي هذي الحياة التي أتحمَّلُها بصُعوبة ولا أتقبّلها إلاّ بدافعٍ من مخاوفي، يعود بقصفاته المُتقطّعة الشبيهة بهجمات ريح مِعْجاج على زجاج نافذة. مطرٌ حقيقي تعثُرُ فيه العين مُجَدّدا على الامتدادات المائية الشّاسِعة. كانتْ المائدة جاهزة. كانوا ينتظرون شخصا ما.
-
أرِنِي هذا، قال.
إنّهُ ألبومٌ قديمٌ، ما أكثرَ ما اقتربتْ منّي، من بين دفّتيه، وحوشٌ بِخراطيمَ، وضفدعِـيَّاتٌ لبدَتْ في جنباتِ مستنقعاتٍ تُخيّمُ عليها الكآبة، متربّصةً بحشراتٍ تلوكُ أحلامها، وأعشابٌ يابسةٌ منتظمة في خطوط متقطّعة وسط أشجارٍ شائكة تنبعثُ من بين تلافيفِها أصوات متنافرة. كُنْتُ أُغَذّي الوهم بأنّني أحيا في تلك الأصقاع. يا لَلْعملية الموفّقة. هكذا، لم يعد ثمّة ما أقلق من أجله. فلتذْهب بقية العالم إلى الجحيم! وها إنّي الآن أستشعرُ أمرين غريبين في الآن نفسِه.
-
لن ترى شيئا، أجَبْت.
ما الذي كُنْتُ آمله، إذن؟ ما الذي كنتُ أريد أن أبحث عنه في هذه الصّفحات ليكون لي سندا فعليا؟ لقد لعبتُ ورقتي الأخيرة. كانتْ هي قدْ رحلتْ. والغريق لا يُخْرَجُ من الماء إلا ليُهيّأ له قبرٌ لائق. لا. إنّ كلّ شيء في طور الاستهلال. الغريق ينهض على قدميه، يدفعُك يمنة ويسرة؛ ولا تستطيعُ إزاء هذا شيئا. وياللمُصيبة إذا سَدَّ حنجرتك أو قصبة رئتك. أو إذا اختار الإقامة في ذاكرتك. لم يكن قد تبقّى لي سوى صفحاتِ أيّام الطُّفولة تلك: منحتُها لنفسي، نقطةً جّيدة... وكنتُ ألحظُ ذاتي وأنا ألهث، صريعَ لذّة رهيبة. كانتْ قدْ ماتتْ، لكنّها كانت تمرُّ مُجدّدا مُعَرِّجة على الأحجار من دون مشكل. وعلى الصّفحات، تحت الحبر، لم يكُنْ ثمّة الورق، بل كانتْ هي. قسماتُها كانتْ تحت المَدَر تفْضَحُ جريمة ما غير مُحدّدة. إنها كانتْ تتنفَّس. و ذهبتْ قراراتي أدراج الرّياح! لقد اعتقدْتُ حقّا أنّي، بشكل مفاجئ، لحظتُ استنشاقَها الهواء. أيتعلَّقُ الأمر بصرير عاديّ؟ أمرٌ يبعثُ على الضِّيق! تصوّروا شارِعا شبيها بالذي عشتُ فيه، أُناسا يعاملون المرء بازدراء، لا يُحيطون عينيه بالرّعاية. تخيّلوا هطولَ ذلك المطر الأوّل، وإذ تبلغون النهاية القصوى لتصوُّراتكم، لاحظوا كيفَ يقومُ الشّتاء والبرْد، عامِلا التّنظيفات النّشيطان، بكَنس القمامة المُتعفّنة، و كيف يَدفعان المرء إلى الخلف بلا هوادة، مُعيدَيْنِ إياهُ إلى داخل ذاتِه، إلى ذلك الظّلام الذي اعتاد فيه ارتطامَ رأسِه بما لا يراه...
كانت مياه المطر مُستمرّة في التساقط بكميات كبيرة. من الأغوار تتناهى ضَجَّة خافتة. تكفي صَرْخة لأُنْقَذَ أنا أيضا. صرخة فحسب. في المطبخ، كانتْ زوجة الأب تُدندن؛ وطِفلُها يضحك دون أن يكفّ عن تنشُّق أبخرة الطّعام. كنتُ قد وصلتُ، تقريبا، إلى منتهى مُعاناتي. وكان ما حصّلتُ من نتائج في غيرِ صالِحي. وكلّ شيء اكتسى بحالك السّواد. كانتْ قد جاءتْ لوضع حدّ لما كان. ثُمَّ اختفتْ إثْرَ ذلك على الفور. إنّ الشّقاء يَصْحَبُ الحظّ الطّيب. في اتِّحادِهِما يَظهرانِ بنفسِ الوجه. وفي ذلك ما يبهر، فإمّا أن يُبْدي المرء الرّضا أو يَنذُرَ نفسَه للهلاك. ودونما تحفّظ عبّرتُ عن رضاي، وقلْتُ في نفسي إنّ الحظّ قد ابتسم لي في هذه المرّة. فتميمتي كانتْ هي. وعيناها، كمْ هما عميقتان. لم أرَ ما يُشْبِههما عند امرأة أخرى. و كان يَجبُ الهَدْم ليتسنّى البدء من جديد. لقد لزمَ، في النّهاية، تدميرُ كلّ شيء، بما في ذلك الرّصيف. هي ذي الحياة وهؤلاء النّاس الذين يحتكّون بك بدافعٍ يكاد يكون هو الشّفقة على النفس. خاصّة الأقربون. لقد تغير اتجاه الريح، فجأة. وها هي واقفةٌ خلفي لا تريم. في صلابة الحيطان. ما الجدوى! إنّ المطر يغسِل كلَّ شيء، ويَنفثُ في المرء حياةً أُخرى، جديدةً هذه المرَّة.
نخرجُ مُتعانِقَين، فرِحَين. نغلقُ الباب بعنف؛ أو نتركه مفتوحا، أليسَ هذا أكثرَ بساطة؟ إنّ الكلاب تتبوّلُ عليه، بل هي تجوبُ البيتَ نفسَهُ مستكشفةً حتّى الخفيَّ من زواياه. لم تعُد هنالك سوى يافِطة بِأعلى إطارِ الباب: بيتٌ مفتوح. يافطة، أو لا شيء على الإطلاق. لكنّ البابَ يبقى مفتوحا، أُنَبّهكم إلى ذلك؛ ونحنُ نمضي لأنّنا راضيان عنْ نفسينا وما عاد لأحد الحقّ في أن يؤاخذنا على شيء. كنَّا نكيلُ الشّتائم للذين يَمُرّون قُربنا، دون أنْ نتوقّفَ حتّى، ودون أدنى تفسير. نبتعد، نستوقفُ تاكسيا، و نطلعُ إليه. اِمْضِ بنا إلى حيثُ تشاء. يَحتجّ السّائق، لكنّه يستجيب وينطلق. ويَهوي الواحِدُ منا في الآخر، في نظرة الآخر التي تُصبحُ، فجأة، في رحابة الغابات.
أزِف وقتُ الغداء. يَلزمُ قرعُ جرسٍ ليحْضُرَ الجميع. تغييرُ المواقيت لا يُجدي، فثمّة دائما واحد يتخلّف. واحِد تأخر. لعناتٌ تُكال بصوتٍ جَهْوريّ. يَتِمّ البحثُ في كُلّ الغرف، تُشالُ المَرْتبة. كثيرا ما يَحدثُ أن أتخفّى تحت السّرير بعْد معركة ما، والرّكلة التي تلقّيْتُها على القفا تشهدُ على ذلك...

                                                                                                                                                

القدس العربي
         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق