الجمعة، 4 أكتوبر 2013

"الحدث والحقيقة" للزميل عبد الصمد الكباص


       بداية، لابد لنا أن نؤكد، على أمر هام، مؤداه أن هذا العمل بعنوان “الحدث والحقيقة” لصديقنا المفكر عبد الصمد الكباص، عمل يأتي تتويجا لجهود بدلها وما يزال في مجال الفلسفة، التي معها كانت أو لى إبداعاته قبل أن يلج مهنة الصحافة. نورد هذه الدباجة، للتوكيد على أن مأمورية فهم ثمرته هاته تستدعي منا استحضار إمكانيات الرجل الهائلة، على التأو يل وإعمال الفكر، التأمل والحفر في ثنايا اللامفكر فيه.
      
          ذلك لربما، هو ما يشفع لي اغتنامي فرصة تقديمي له اليوم، للفصح عن قدراته المذهلة والتي مرارا، ما كنت أنبس بها للأصدقاء، وأكتمها عنه. تأكد لي ذلك، طبعا في عدة لقاءات، وبحضوري بمعيته لعدة ندوات. فصاحبي، له الكفايات التي ليست لغيره، بحيث يستطيع أن يحاضر دونما ورقة، وأن يتفلسف بلا إعداد مسبق. إنه يتكلم فيلسوفا ويتفلسف متكلما. كل ذلك بالطبع يرجع إلى كونه يواكب الجديد، ويقرأ ما لم يقرأه بعد الآخرين. فالرجل مكد فيما يقوم به، ويكاد لا يعرف إلا العمل والاجتهاد.
معطلا كان مدمنا على اقتناء الكتب، وارتياد دور السينما، وسماع الموسيقى، ولما صار له أجر، لا ألتقيه إلا وهو محمَّل بالجديد، حد أنه قد يجهز على ميزانيته الشهرية قبل الأوان مقابل ثراء هو ما جعله اليوم يزود الحقل الصحافي بكتاب فكري يكاد يخرج عن المعتاد والمألوف.
         هذا ما نلمسه في هذا المؤلف الذي بين أيدينا، حيث يروم صاحبنا تمزيق جبة الديونتولوجيا التي تسكن مهنة الصحافة. والتي كثيرا ما استدعت الخبر كإرادة لقول الحقيقة. الحقيقة لا من حيث كونها “نسبية” بل باعتبارها “مطلقة”. ذلك أن الأخلاق لم يسلم منها أي مجال. أقصد الأخلاق كسموم، تتبجح بالموضوعية وتزعم المعقولية. فخلف “مسألة الموضوعية تتجمع كل مشاكل الإعلام، مسؤولياته وواجباته، حقوقه وأخلاقياته والمخاوف المرتبطة به والرهانات المؤسسة عليه والضغوط الممارسة في حقه”(ص7). من ثمة ضرورة التساؤل عن ماهية الإعلام؟ بل وعن مهمته وغايته والجدوى منه يلح عبد الصمد.
       ومن نافلة القول، التوكيد على الخصال التي تميز صديقي أينما رحل وارتحل، إذ لا يخفى على كل من يعرفه، أنه يتحلى بأخلاق عالية، انعكست إيجابا على عمله الصحفي، الذي جعل منه الكباص، قضية إيطيقية وحقلا للصراع السياسي، إن لم أقل أيضا فرصة للالتزام الفلسفي. كل ذلك، ليس إلا لأنه يدرك أيما إدراك، أن حقيقة العالم اليوم إنما تصنع في هذا المختبر الغريب الأطوار، وبواسطة تقنية الصحافة التي تعمل على خلق الحدث عبر الإخبار. لكن “الخبر في حد ذاته ليس مهما في الصحافة وإنما الأهم هو ما يترتب عنه، أي المفعول الذي يولده في الواقع”(ص.12) سيما وأن الواقع قد تغير جدريا، وتبدلت براديغماته، بحيث أصبحنا اليوم نعيش في خضم ما يسميه “دولوز” بمجتمعات الرقابة. مجتمعات صار الإنسان فيها مكبلا بآراء يصنعها الإعلام، ومصفدا بقروض مدين بها للمؤسسات البنكية. هذا مالم يعد يجعل المجتمع في حاجة إلى اعتقاله أو سجنه كما كان في المجتمعات التأديبية.
       على هذا النحو، يسعى الكباص إلى الحفر في ثلاث فرضيات هي ما سيكشف طيلة هذا البحث عن العلاقة الثاوية ما بين الخبر والحدث. وإذا كانت الفرضية الأولى تتعلق بماهية الخبر الصحافي، فالثانية ترى أن الكشف عن إشكالية الموضوعية في الخبر الصحافي يلزم نقلها من محورها الكلاسيكي المتصل بثنائية الذات والموضوع، إلى محور آخر هو محور اللغة والحدث. أما الفرضية الثالثة فيسعى من خلالها إلى فضح تلك السذاجة التي تجعل الموضوعية مرهونة بواجب قول الحقيقة.
      هكذا وبوضعه لسؤال الموضوعية في الصحافة في محك التناول الفلسفي والإبستمولوجي، سيما عند هوسرل وهيدجر وكارل بوبر وباشلار، وبتخصيصه الفصل الثاني لطرح ذات الإشكال أمام رهان بلاغي يمر الباحث إلى اختبار مدى فعالية منهجه في الفصل الأخير من الكتاب، مطبقا حصيلته النظرية على نماذج محددة من الأخبار الصادرة في الصحافة المغربية. لكن ما يهمنا هنا، وباختصار، إنما هو الآليات التفكيكية التي نهجها صديقنا تعرية لـ “إرادة قول الحقيقة” التي يزعمها الخطاب الإعلامي.
على اعتبار الإعلام بحسبه شبكة قوى ، لا تفتأ تحوِّل الذات المخبرة إلى مجرد أداة موصلة للخبر، وتجعل الصحافي مجبرا على نفي ذاته مقابل الإفصاح عن سلطة بها يُدبَّر العالم ويساس. في موضع آخر، من كتاب “أفول الحقيقة” يفصح الزميل عبد الصمد، وبشكل مثير، عن منظوره التفكيكي لطابو الحقيقة مؤكدا على “أنها الصيغة التي يدبِّر بها عصر ما العلاقة بين المعرفة والوجود” أفول الحقيقة: الإنسان ينقض ذاته، عبد العزيز بومسهولي، عبد الصمد الكباص، حسن أوزال.إفريقيا الشرق، الدار البيضاء-بيروت 2004،ص.46
وإذا كان الإنسان هو الطرف الثالث في هذه المعادلة، فذلك ليس إلا لأن الحقيقة مشمولة برغبة الإنسان، وهي على الدوام محايثة له لا مفارقة. لكن حالما تساءلنا عن سر هذا الانشغال الإنساني بالحقيقة، ولماذا هو وحده من بين كل الكائنات يفصح عن نية قول الحقيقة إن لم نقل البحث عنها ؟ جاءنا الجواب قاطعا ومدويا على لسان صاحب المجرى الأنطولوجي على النحو التالي: “وحده الإنسان مشغول بها لأنه محكوم بالفقدان الذي يتيح اللغة والرغبة والمستقبل” أفول الحقيقة: الإنسان ينقض ذاته،ص.6.
       بناء عليه يمكننا فهم جدلية الخبر والحدث موضوع حديثنا في هذا اللقاء. ذلك أن الخبر لا يجيئنا بريئا البتة، بل هو ما يقوم على إرادة تبديد الحدث وزرع الفراغ. لا من أجل الإبقاء عليه، بل بغية ردمه في أحداث مناسبة. الإخبار إذن استراتيجية خداع، تفصح عن علاقات قوى هي في صراع دائم على المعنى الذي بفضله يكون الحدث أو لا يكون. “فحول الحدث الواحد تتنافس حقائق كثيرة”(ص.30) . لذلك فحتى الحقيقة بدورها ليست إلا“قوة الفقدان الذي سرعان ما يحول الإتلاف والتبديد إلى نداء لاستعادة المكتمل والحاصل” أفول الحقيقة، ص.47. لعل الفكرة التي دافع ويدافع عنها صديقي المفكر تستحق منا الكثير من الانتباه، سيما في عصرنا الراهن، حيث تغيرت براديغمات عدة، بدءا بمفهوم المكان حتى مفهوم الزمان، مرورا بطبيعة الحال بمفاهيم أخرى رئيسية في بناء العالم من قبيل: مفهوم القانون، المادة، الثروة، السلطة... فمع المجتمع المعلوماتي أضحى المكان شبكاتيا، بعد أن كان أقليديا. تبعا لذلك، كل منا صار يسكن مكانا افتراضيا، ما أن صار له رقم هاتفي وعنوان بريدي إلكتروني. ليس هذا فحسب، بل التقنية أفقدتنا الذاكرة أيضا، فصرنا نخزن المعلومات ونستقبلها، نرسلها ونعالجها بواسطة الحاسوب.
·         ألم يعد الحاسوب وحالتنا هاته، بمثابة حقيقتنا العقلية؟
·         أليس هو ما حل بديلا عن رأسنا؟
·         وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي تبقى لنا؟
·         ما الذي تبقى للإنسان في سياق الفقدان الجدري لمدلوله القديم؟
·         لا مراء أن مقابل عملية الفقدان هاته ثمة ربح يوازيها. فما الذي ربحناه؟
ربحنا الجسد الذي هو الصحة العظمى بتعبير نتشه، ومعه صرنا مبدعين أكثر من أي وقت مضى. لقد كانت المعرفة مسألة تذكر كما لاحظ أفلاطون، إلا أن التقنية اليوم خلصتنا من عناء الذاكرة، وفسحت أمامنا إمكانات هائلة للاختراع. فبعد أن فقدنا إكراهات التعقل، وتحررنا من محنة التذكر، أليس عصرنا الحالي عصر الرهان على الجسد وإمكاناته؟ عن بعده المتعوي وأفقه الجمالي؟
لأننا لم نعد قط ، مثلما كنا بالأمس القريب ، في حاجة لتخزين أخبار أكثر مما نحن في حاجة لإبداع حياة. حياة تسمو بنا فوق كل الرداءات التي حولت حقلنا الإعلامي إلى مجال لتفريخ الجهل ونشر الخرافة بدل العلم والعقلانية. مما انعكس سلبا على المجتمعات العربية التي ماتزال وللأسف أسيرة أفكار الظلاميين، المنتصرين لغريزة القتل وسفك الدماء، المعادين للحرية والعدالة، كما للرفاه والتقدم .
الهوامش:
الحدث والحقيقة، عبد الصمد الكباص، إفريقيا الشرق، الطبعة الأو لى،2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق