الأحد، 12 يناير 2014

قصة قصيرة : سيدة المرحلة


بقلم : محمد بوحمام

الحركة ساكنة هذا الصباح ، كسائر أيام الآحاد..الناس يستهلكون ذواتهم بشكل فظيع ليلة كل سبت.. يحرقون الكثير من الطاقة.. يأكلون أكثر من المعتاد.. و ينفقون تلك الليلة ما يؤمن نفقة أسبوع بكامله أو ما يزيد عن ذلك بالنسبة للمدمنين على الخمر والنساء، العنصران الأكثر إغواء، لأنهما إذا حضرا أحد المجالس كانت الجريمة رابضة على الأبواب، تنتظر إشارة واحدة من شياطين الرذيلة...ويصبحون في اليوم الموالي على ندم وعلى ألم أيضا، ألم أوجاع الرأس والمعدة ..ولغط الزوجات وضجيج الأطفال الذين لا تكثر مطالبهم إلا عندما يكون الجيب متعبا. هناك بالحي القديم كان الأمر مختلفا تماما، فنهارهم كليلهم، يتعاقبان على عنف الصخب والمشاداة الكلامية والصراعات الدموية، لدرجة أنه أصبح بالإمكان ضبط عقارب الساعة على مواقيت تلك الصراعات اليومية بحسب طبيعة الصراع، لأن الحياة في تلك القبور الجاثمة بقلب مركز المدينة، كانت عبارة عن شاشة كبيرة تفضح كل شىء وتعري ما تحت ورقة التوت، قولا وفعلا، مادامت حياتهم مشتركة في كل شيء، فلا يفصل بين تلك البراريك سوى ألواح خشبية منخورة الداخل، كدواخلهم تماما، حيث يختلط فيها الشخير بالزفير وبأشياء أخرى مرفوقة بأنفاس وتأوهات آخر الليل... «هاهو الخفاش قد جاء في الوقت المعلوم..ولن ينام هذه الليلة إلا إذا فعلها…» هكذا كانوا يرددون كلما سمعوا صوت دراجته النارية ذات المحرك الصاخب. وبعد لحظات يعلو الصخب بالفعل وتعم الضوضاء كافة أرجاء البيت، منه إلى بقية بيوتات الجيران الأكثر التصاقا بدار الخفاش، حيث تنقلب الأمور فجر كل يوم إلى معركة حامية الوطيس، من أجل ذلك الشيئ الذي لا تكتمل نشوة السكارى إلا بالغوص في ثنايا أحشائه بجنون الثيران الهائجة..وبعد أخذ ورد يتحول الثور الهائج إلى جثة هامدة، يهذي بأصوات غريبة وأسماء نسائية أطلسية تثير في نفس فضيلة أقصى درجات كراهية الرجال وما قد يأتي منهم. فتتسلل إلى قبر الزوجية من جديد وتحمل محفظة نقوده إلى القبر المجاور كي تفتشها بكل راحة. فالحذر واجب رغم كونه نصف ميت في تلك الأثناء. وقد يتدخل النصف الآخر في أي لحظة ويضبطها في حالة تلبس، ليعيدا المعركة مرة أخرى، وإن كانت مقتنعة تماما بأنها لا تسرق سوى رزق أبنائها عوض أن تتركه عرضة للإسراف على الباغيات كما قالت ذات يوم لحماتها التي اعتبرت ذلك حراما فردت عليها جازمة : الحرام هو التجويع والتفقير..الحرام هو عندما لا يجد أبنائي ما يأكلون وما يشربون..الحرام هو عندما يعلق رزق أولادي فوق صرة الشيخات..انزيدك ولا باراكا... « لا يا فضيلة، الحلال بين والحرام بين، أليس من حقه أن يفرج عن نفسه مع أقرانه..» « فلينبسط كما يشاء… لكن ليس على حساب قوت أولادي .» « معركة أخرى في راس الدرب نوضي نوضي شوفي شكون مضارب لايكون ثاني ذاك المسخوط منوضها مع شي واحد». …………… وتعود لصبيحة الأحد سكينتها التي يعكر صفوها عادة في بقية أيام الله ضجيج الحرفيين وآلات المعامل، و أصوات الباعة المتجولين التي لا تكاد تنقطع صباح مساء . لقد واظبوا على المرور بهذا الحي الأروبي بحكم العادة فقط منذ أيام الفرنسيس والسباليون الذين اجتاحوا هذا الحي أيام الاستعمار حيث كانوا يبتاعون منهم بعض الألبسة والأثاث بأبخص الأثمان . والحقيقة أن أولئك المعمرين الذين جاؤوا أو جيئ بهم على نية البقاء إلى الأبد..كانوا وقتها يهيئون نفسهم للرحيل،بالتخلص من كل ممتلكاتهم ليقوموا في النهاية ببيع منازلهم بما تبقى فيها أو يتركونها لمن كانوا يعتبرونهم من خدامهم المخلصين بدون مقابل أو بأثمنة رمزية،حسب وفاء كل منهم ،كما حصل مع ابراهيم النسناس ،ذي الوجهين ،الذي عرف كي يتستر عن تلك الأملاك ،وعاش فقيرا مدة طويلة إلى حين هدوء الأوضاع..ولكنه في جميع الأحوال سيظل بصمة عار على جبين أولئك الخونة من كفار الوطن ،،،استقر النسناس الخناس بإحدى هذه الدور ، واكترى هذه الدويرة لأحد أبناء عمومته الذي سرعان ما طرده منها بطرق ملتوية، واستغل جزء منها بعد ذلك في إيواء العمال القادمين من الأرياف،حتى يتمكن من استعبادهم أكثر بأجور هزيلة. أما صالح الخفاش فقد كان نصيبه من هذا العرض الماكر هو سطح هذه الدويرة الجاثمة بهذا الحي الأوربي الذي فقد جل صفات التمدن وأصبحوا يطلقون عليه تفكها الحي العوروبي، بدون أدنى وثيقة تثبت ذلك ،كي يظل هو الآخر تحت سيطرته و طرده منها في أي وقت. الشيئ الذي لم يخطر ببال الخفاش في يوم من الأيام، لأنه وجد فيه فوق ذلك فرصة للارتياح من نظرات وأقاويل الجيران بخصوص معاركه اليومية مع فضيلة بالحي القديم. فكل بيت هنا كان يشكل جزيرة معزولة .لا أحد يعرف أحدا ..والكل يعرف كل شيء عن الكل منذ الأيام الأولى ...وفي غفلة منك.. لكل حي آذانه ولسان حاله البارع في جر بقية الألسن ،جرا جرا ،حيث يعرف كيف يتقرب وبطريقة خاصة من أي ساكن جديد. و للحصول على هذا المبتغى يسدي لك بعض الخدمات ، ويعطيك أدق التفاصيل عن جميع ساكنة الحي بدء بألد أعدائه إلى الحديث عن نفسه وأفضاله عن هذا وذاك وتنكره بعد ذلك للجميل أو ما قد يعتبره كذلك ،قبل أن يستدرجك للحديث بمحاولة جر لسانك من جذور أطرافه «….». وعندما شعر بنوع من الألفة والارتياح للقادم الجديد، قال اللسان: أول ما أوصيك به كأخ هو أن تتقي شر الحاجة. إنها خطيرة ..السم القاطع ولا هي... اللسان المجرور: يظهر أنها هادئة و متقية. وفوق ذلك فهي زائرة لبيت الله ... اللسان: لاتغرنك المظاهر ..لقد اشترت ذلك اللقب بأموال حرام، للتكفير عن جرائمها..ولكن لا حيلة مع الله . اللسان المجرور: حتى الحاج ابراهيم فعل الشيئ نفسه اللسان: من يكون هذا الحاج ابراهيم،، ياك ما يكون... اللسان المجرور: هو هاذاك…صاحب هذه الدار التي رهننا بها كالعبيد..لقد ضرب ضربته أيام الاستعمار، واليوم أصبح يصول ويجول تحت جبة التقوى والإيمان، رغم أنه كان من أحط كفار الوطن، هذا الوطن المتسامح الذي كان غفورا بأولئك الذين باعوا واشتروا فيه بالوشاية والجبن، وغدروا بأبنائه البررة الذين سجنوا وعذبوا وسقطوا شهداء في الساحات العمومية وفي غياهب السجون. وليت أولئك الخونة كانوا في مستوى تسامح الوطن وكفوا عن استعباد العباد بأموال ملطخة بدماء الشهداء، عوض محاولة تبييض وجوههم بشراء تذكرة إلى بيت الله الحرامأما الحاجة فلم تكن أبدا من هذا النوع الحقير ..كانت تبيع وتشترري فقط بجسدها وعنفوان شبابها ،إلى أن هدها الزمان ، واتقلبت أحوال البلاد والعباد، فحتى معارفها القدامى الذين كانت تسخن بهم كتفيها وتسخن الطرح في الحي كله لأتفه الأسباب، اختفوا تماما ..فقد تقاعد منهم من تقاعد، ومات منهم مات، وتنكر منهم من تنكر لأيام الحاجة، بجمالها الأخاذ وقوامها الرشيق المتناسق الأطراف، وإن كانت في الحقيقة ، مجرد امرأة كسائر النساء، كلما في الأمر هو أنها كانت متحررة كثيرا في ذلك الوقت، أيام الجلاليب والحياك والأزر، حيث كانت تكشف عن المستور وتصول وتجول في أحياء النصارى واليهود والمسلمين نصف عارية .وقد كانت تعمل آنذاك كساقية بأحد نوادي الشاطئ ، مما كان يثير إعجاب النصارى قبل المسلمين وإن كان هؤلاء ينعثونها بأرذل الأوصاف ومنهم من كان يعتبرها كافرة والعياذ بالله ،ولو أن عشاق جسد الكافرة بالله كانوا كثيرين..وكانوا يتمنون في سريرتهم لو أتيحت لهم فرصة الإبحار ولو في حاشية تلك الساقية الغريبة الأطوار..لأنها لم تكن تخضع إلا لمن يهواه شيطانها، كما لاتستسلم بسهولة حتى لبعض أصحاب الكلمة والشأن ..وكلما حاول أحدهم أن يغطس بدون مايوه، تتصل فورا «بسيدو»، ليجد نفسه في صبيحة اليوم الموالي في منطقة معزولة دون معرفة السبب. فلازمة الإدارة في ذلك الوقت لم تكن تزيد عن كلمة : التعليمات ..وأي استفسار في الموضوع قد يؤدي به الى ما هو أسوأ ..إنها الكلمة القفل والمفتاح، التى ظلت لعقود طويلة سيدة المرحلة... راحت مرحلة الحاجة ورجالها المتنكرين...وأصبحت خطواتها محسوبة .. وأنفاسها معدودة..ولم يتبق لها من كل ذلك سوى هذه العمارة التي تعيش من مداخيل كرائها وتستأجر إحدى الفتيات القرويات لخدمة شؤون البيت ومؤانستها في وحشتها الرهيبة.. ولا تخطو خطوة واحدة بدونها، سواء ذهبت إلى السوق أو إلى الحمام. فلا أهل لها ولا صديقات ولا زوج ولا أبناء... ولم يكن أحد يدري في ما إذا كانت مقطوعة بالفعل من شجرة ، أم أن أهلها نزعوا صفحتها من الحالة المدنية - كما يقال- منذ ذلك الزمن الغابر..لتبرئة ذمتهم من أفعالها ولكن الظاهر أنها كانت في الصغر متبناة من طرف إحدى العائلات البيضاوية..وطردوها بعد فضيحة أخلاقية شنيعة، حسب رواية أحد مجايليها ، الذي قضى وفي نفسه شئ من الغصة الدفينة في أعماق جسد الساقية. وهي رواية صحيحة غالب الظن،والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق