السبت، 29 نوفمبر 2014

قصة قصيرة : داء الغربة


بقلم محمد بوحمام

لا مجال للذكرى في زمن الحرب…
      مدينة أحلام ملتهبة بالحرائق، ذوي القنابل والمدافع يكاد يصم الآذان. وصفارات الإنذار تطلق في كل الأوقات. البلاغات الصادرة عن العدو تؤكد أن الطلعات الجوية الليلية أصابت أهدافها المرسومة. نجحوا في تدمير جزء كبير من الضاحية الشمالية للعاصمة، معقل الذخائر والأسلحة، حسب اعتقادهم وما جادت به جعبة العملاء المبثوتين في كل رقعة من بقاع العالم.
تمر ساعات معدودة، فتصدر بلاغات عن مدينة الحرائق مطمئنة، عبر آخر الأنباء الواردة من قلب المعارك، الطاحنة. تتضارب البلاغات والبيانات الملغومة ذات البعد التكتيكي، لكسب الجوانب المعنوية المتجلية في الحرب النفسية، الرامية إلى التأثير على الرأي العام والنيل من عزائم جنود المواجهة. ومع تضارب البلاغات والبلاغات المضادة، كدنا في هذا المكان القصي الآمن والبعيد عن مسرح الأحداث أن نفقد الثقة في المذياع والتلفاز وجميع وسائل الإعلام.
لا مجال للذكرى في زمن الحرب 
      ولاشيء يطمئن البال في هذه الأجواء الملبدة بغيوم الأحقاد والضغائن، أحقاد تتوارثها الأجيال اعتباطا، وتؤدي بذلك ضرائب أخطاء الماضي المتراكمة على أنقاض بعضها البعض، منذ عهد الفتوحات إلى زمن «الانغلاق» والانكماش على الذات. بالأمس كانوا هنا جميعا.. وكانت أقوالهم بحجم الكون مجلجلة حالمة…ولكن…يا رحمة الله من هذه اللاكن اللعينة ومن مرارة القلوب المثخنة بجراح الأسئلة الموجعة.
فأين رجال الأمس الذين تغنوا بهذا النخيل الشامخ، شموخ الزمن العربي الهارب من نفسه، أين أولئك الذين تذوقوا طعمه المنعش عصيرا مسكرا وحلالا طيبا.. وحاكوا من شعاعه أشعارا وأقاصيص ماتزال حروفها عالقة بصدإ المطابع التي شاخت جراء عدم الاستعمال.
في الخمارة النواسية ـ هناك ـ كانت الأحلام والكوابيس حاضرة كصورة مزركشة بالشروخ. فكر شارد ينخرط في الحاضر عبر نظرات زائغة تتجاوز الزمان والمكان، بحثا عن التوازن المفتقد بين خطي طول وعرض الخرائط. شتائم متبادلة تكسر الصمت الرهيب الجاثم على صدر الخمارة. لا أحد يجيب أحدا. ولا أحد يقصد أحدا بعينه. كل واحد كان يشتم الكائن الشبح الماثل أمامه، والعالق بذاكرته منذ أيام المواجهة.
قلت للعربي : لقد آلمتني كثيرا حالة ضحايا الحرب..هل سمعت كيف كانوا يخاطبون الأعداء.!؟
ــ غريب فعلا. إنها كانت فعلا حربا قذرة.. وأعتقد أن لغة الأسر كانت أكثر إيلاما.
ــ فلنغادر هذا المكان أعصابي بدأت تنهار
ــ هيا بنا..فحتى التزامنا المسائي يفرض قليلا من الراحة
ــ كدت أنسى ذلك…هل تعتقد أنهم سيوافقون؟
ــ الأمل ضعيف ولكن المحاولة ضرورية…
لا مجال للحب في زمن الحرب
في عقدها الرابع كانت أحلام تتحين فرصة رفع الستار، لتركن إلى حضن خليلها ذي اللحية البيضاء، في الصف الأخير من الزاوية المعتمة بمسرح مدينة الحرائق، حيث تنقطع الأنفاس، ويهرع اللسان إلى قعر اللهاث مصعوقا..وحدهما الشفتان كانتا تلعبان دور كاتم الصوت، وإلا لكانت المسرحية تحولت إلى معركة من نوع آخر، … ويستمر العرض..مشاهد دموية مستقاة من رحى الحرب الطاحنة. كل منهم كان يرى في إحدى الشخصيات قريبه المفقود. لوحات بطولية وأخرى جنائزية انغرست في الذاكرة والوجدان.
…………
« ذات يوم حملوا لنا نعشا مفحما. العلامات المتبقية من جسده تدل فقط على أنه من فصيلة الآدميين..قالوا لنا هذا ابنكم الشهيد « م » البقية في حياتكم…شهيد ابن شهيد حمل معه مفتاح الخلد وسيجعل له الله مكانا في الجنة مع الشهداء..
« قلنا آمين… بكينا بمرارة. انتحبت والدتي بحرقة إلى أن فقدت البصر، واعتنقت البكاء عقيدة بل طقسا يوميا أثناء كل الوجبات. وفي كل المناسبات الدينية والوطنية تزداد حسرة وأسى…كان كل شيء يذكرها بالشهيد.
وفي السنة الموالية التي أعقبت سنة المرارة. جاءنا صوته واضحا عبر الأثير، صوت من كنا نعتقد أنه في الجنة مع الشهداء، كما قيل لنا.. ما يزال أسيرا في الجحيم، في ضيافة العدو. ومع ذلك لم تقتنع الوالدة بهذا النبإ اليقين. وظلت على حالها تواصل زيارة قبر ابنها الذي ليس ابنها صبيحة كل جمعة وفي جميع المناسبات.»
لا مجال للحب في زمن السلم
«…أنا الشيخ العائد من الإعدام.. أنا الشيخ الهارب من نفسه إلى نفسه التي هي نفس من لاقوا نفس المصير. محوت صورتي عشرات المرات مكرها. ليس حبا في الحياة، ولكن لبلوغ المرتجى ونفض الغبار عن حقائق الأزمنة الغابرة المضمرة في تجاويف الزمن العربي الهارب من الموت إلى الموت. لا تحاولوا النبش أكثر في قعر هذه الذاكرة. لقد علمتني عذابات الأسر كيف أصلب نفسي تمثالا من كلس حفاظا على الأسرار…ووفاء لمناضلي وطني…».تصفيقات خفيفة تعقب هذا المونولوغ الذي كان له وقع خاص على أحدهم، فصاح بأعلى صوته :  «استخلصوا العبرة يا سادة إنه حديث الوطن…».
وقال الشيخ التائه في دروب بغداد بدون هوية: « غدا سأفعلها…يا أحلام. ارسمي قبلات الوداع على شفتي…فهذه هويتي المنسوخة قهرا أمانة في عنقك. اهديها قربانا للوطن…وحدك كنت الشاهدة أنني كنت ذلك الإنسان الذي…»
اختفى بعد نهاية العرض، ولم يعد يظهر له أثر. ربما استوطن إحدى مغارات الجبال المحاذية لتركيا، في انتظار الفرصة المواتية كي يلقي بنفسه مرة أخرى في الجانب الآخر من الحدود...
لا مجال للذكرى في زمن السلم
      في طريق العودة افترقنا…العربي ذات اليمين، وعرجت ذات اليسار، على أمل أن نلتقي في المساء. أخذ الزقاق النواسي الطويل يمطرني بسيل من الأسئلة. مثلت أمام ناظري تلك الكائنات الشبحية بعذابها الإنساني الذي تفنن الصداميون من عباقرة الوقت في استغلاله أبشع استغلال، لتعميق الهوة بين الإنسان وآدميته وقيمه التي غدت لا قيمة لها في أزمنة القمع العربي الموبوءة..
كادت أحلام أن تفقد توازنها أكثر من مرة. تتماسك كعادتها وتواصل رغم عدم اقتناعها بجدوى الأشياء، حتى في كتاباتها وفي مواقفها. المشروب الوردي كان يسبح يمنة ويسرة والكؤوس تعانق بعضها مع كل حركة. صراط من نوع آخر لا يكاد يوازيه في تلك اللحظة إلا حيرة صديقي العربي من مثل هذه المواقف التي تدعو فعلا للتقزز.
الحرارة مميتة ودخان سجائر أعضاء الوفد زاد الجو اختناقا. الهدف متفق عليه مسبقا، غير أن الصمت ظل سيد الموقف. التفت ناحية رئيس الوفد محمد البدري الذي أوكلنا له قيادة السفينة علها ترسو في المحيط:
الوقت يمضي بسرعة…
الليالي الصيفية تمر هكذا في مكان قالها الرئيس الذي أثبت أنه توصل بالرسالة وهو يلتفت ناحية عم أحلام وولي أمرها: العربي كاتب معروف تجمعنا به صداقة متينة. وقد ظل وفيا لالتزاماته بالدفاع عن القضايا العادلة وعن الحرية والكرامة الإنسانية...».
استرسل الرئيس في تعداد الكلمات الضخمة التي لا تليق إلا بشن الحملات الانتخابية. وخشية أن تتحول الخطوبة إلى خطبة منبرية، تدخل العربي بنفسه لحسم المسألة:
ــ لقد جئنا راغبين في طلب يد ابنتكم المصون أحلام.
ــ كان بودنا ذلك لولا «الهوسك»
ــ وقال أخوها الأكبر : أين يوجد بلدكم؟
ــ في المحيط الأطلسي
ــ كم رصيدك…؟
ــ أزيد من عشرين كتابا….
ــ كم يذر عليك الكتاب الواحد في الشهر؟
ــ لا أعيش من كتبي. أنا موظف مع الدولة، أدرس أبناء الشعب. ولا أفهم في تجارة الكتب
كانت أحلام تطل برأسها من حين لآخر. يبدو أنها لم ترتح لطبيعة الحوار وظلت تظهر وتختفي كغيلم زفزاف دون أن تنبس بكلمة. بعد لحظات قدموا لنا مشروبا آخر لم يكن ورديا هذه المرة. وحلويات لم يقبل عليها أحد. كان الجميع بحاجة إلى ما يبلل به ريقه. وليته يكون من العرق المحلي. وبعد ذلك ساد الصمت من جديد، مما أثار العربي وأفقده بعضا من هدوئه المعتاد: بعد كل هذا التحقيق نتمنى أن يكون تعارفنا مثمرا ونقرأ الفاتحة.».
ــ كان بودنا ذلك ولكن أنتم غربيون ونحن شرقيون. عاداتكم لا تشبه عاداتنا، وفوق ذلك نحن الأكراد…قبائل عشائر.. لا يمكن أن نعيش بعيدين عن بعضنا، لأننا معرضون للإصابة بداء الغربة، أي«الهومسك» وهو داء خطير لازم أحلام بباريس أثناء الدراسة، حيث كانت تتردد على اختصاصي في الأمراض النفسية مرتين في الأسبوع. ومع ذلك لم تتمكن من إتمام رسالتها هناك، ولا من تجاوز محنة الهوسك. هل لديكم اختصاصيون في المحيط لمعالجة داء الغربة!!؟
«إن الشمس تزورنا كل صباح مثلكم، ونودعها كل مساء مثلكم تماما…»
«……………………»
وكان حوار الصم هو ملاذنا، أمام جهل صاحبنا بالخرائط وتخلفه الكبير في التاريخ والجغرافيا والأدب..تحدثنا عن كل شيء وعن لا شيء…إلا عن امرأة في عقدها الرابع، تأكد لنا أن سفح الجبل سيكون محطتها الأخيرة هربا من تسلط النظام وجبروت اللانظام الذي مايزال يتحكم في كل شيء بعقلية القبيلة والعشيرة، علها تستريح هناك في حضن حبها الأول، ذلك الشيخ العازب، الهارب من مقصلة الإعدام.. ومن داء الغربة الذي هو الهومسك، والذي قد يكون أشد وقعا ومرارة على الإنسان في وطنه بين أهله وعشيرته…
        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق