السبت، 7 فبراير 2015

أنا والسرطان ..


ـ محمد شروق

 
أصدقائي في جمعية خريجي المعهد العالي للإعلام والاتصال،المعهد العالي للصحافة سابقا،عاشوا نفس الألم. زاروني أكثر من مرة ولم يتوقف سؤالهم لحظة. ستخلد في ذاكرتي مواقف عبد الطيف لمبرع، سناء الزوين، سارة زروال، محمد التويجر ،نور الدين بلزرق، سعيد بوزيام، علال نجدي و يونس القاضي ...
...في صباح الغد، اتصلت بي كاتبة الدكتور ابراهيم الوافي المختص في أمراض الأنف والحنجرة لتحدد لي موعدا في اليوم الموالي مع الطبيب المختص في الأنكولوجيا البروفيسور عبد اللطيف بني إيدر.
ذهبت رفقة زوجتي إلى المصحة بالدار البيضاء في الموعد المحدد.لما وصلنا قاعة الاستقبال، تقدمت إلى الكاتبة بالرسالة التي كان الطبيب الوافي قد مدني بها.قالت لي اعطني بطاقة تعريف المدام،وكانت قد لاحظت وجهه زوجتي الشاحب التي تأثرت بعد سماعها خبر الاصابة بالداء.ودعت النوم والأكل وكنت تبكي خلسة عني.في حين كانت الكاتبة ترى في شخصا في كامل قواه.وضعت يدي في جيبي ووضعت اماها بطاقتي وقلت لها مبتسما:أنا المريض.فتحت لي ملفا التفت إلى قاعة الانتظار فوجدتها مليئة كالعادة، حيث لا يوجد ولا مقعد واحد للجلوس.نساء ورجال أغلبهم يبدو منهكا. الملاحظة الأولى هي أن جل الناس يحملون قنينات الماء المعدني والتي سأعرف فيما بعد ضرورته.أخيرا حصلت على مقعد. أخذت مكاني فيه رفعت عيني فوجدت في المقعد المقابل مباشرة سيدة في الخمسينيات من عمرها.يبدو أنها كانت بيضاء البشرة لكن وجهها الآن مكسو بالسواد.وكنت أسمع أن العلاج الاشعاعي "الراديوتيرابي" أو ما يعرف ب "البولة" هو الذي يفعل هذا.
       فجأة وقف رجل أمن خاص مرفوقا بممرضة وطلبا من المصاحبين للمرضى أن يغادروا القاعة. فهناك حتى يتمكن المرضى من الجلوس.كما أن هناك مرضى آخرين ينتظرون في الطابق الأرضي.هنا بدأت أشعر بالضعف، فأنا غير معني بهذا الطلب-الأمر لأنني هنا مريض ومن حقي مقعد.هنا تغيب الأسماء: لا محمد ولا مصطفى ولا فاطمة ولا خديجة..الجميع يحمل اسما وحيدا: "مريض".
بقينا في قاعة الانتظار حوالي ثلاث ساعات كنت خلالها أقرأ كتابا عن الصحابي العادل عمر بن الخطاب حملته معي من البيت وأنا معجب بشخصيته منذ أن قرأت كتاب "شخصية عمر" للكاتب مصطفى العقاد عندما كنت في مستوى الباكالوريا.كنت من حين لآخر أتصفح موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" أو مواقع الأخبار. كنت أترك كل شيء وأسبح بذاكرتي لأمر على صفحات حياتي فتختلط الذكريات بالأحلام..كنت أفكر في الموت وفي أولادي الذين مازالوا في حاجة لي. لم أحقق أحلامي معهم..كنت أفكر في وقع الصدمة على أقرب أقربائي.. كنت أفكر في طريقة إخبارهم بمرضي..كنت أجهد نفسي في التفكير في الآخر أكثر من التفكير في نفسي.
كنت أرفع أحيانا عيني في الجالسين بقاعة الانتظار. أغلبهم يتأبط ملفات ثقيلة وكنت أرى فيهم متقبلي القريب. لكن الملاحظة التي تقفز إلى العين هي أن الجميع يقرأ القرآن.فالأكيد أن مرضا مثل السرطان يشعر الإنسان بالضعف ويقربه من الله .
       هناك في قاعة الانتظار كنت أقول لزوجتي وأشير لمكتب الطبيب دخولنا إلى هناك سيحدد الكثير من الأمور في المستقبل ولكنني مازلت متشبثا بخيط صغير من الأمل.
مر الوقت ثقيلا وإذا بالكاتبة تنادي على اسمي.استقبلنا الطبيب في باب مكتبه وهو من الأطباء المعروفين بالمغرب إنه البروفيسور عبد اللطيف بني إيدرعضو اللجنة العلمية لجمعية للا سلمى لمحاربة داء السرطان. وحتى أكسبه من البداية سلمت عليه وقلت له لا نراك إلا في التلفزيون.ابتسم ابتسامة خفيفة ودعان للجلوس. وضع ملفي الطبي فوق مكتبه.إيكوغرافي، سكانير، تحاليل دموية، ونتائج اختبار العينة التي تؤكد وجود مرض السرطان..بدأ يضع أسئلة محددة:هل تصاب بالرعاف"سيلان الدم من الأنف"؟هل تشعر بالحمى؟هل تدخن؟أين تسكن وأين كنت من قبل ؟ هل هذا السكانير جديد؟...كنت أجيب بالضبط على جميع الأسئلة بل وكنت أضيف بعض الأمور المفيدة له من أجل مساعدته على التشخيص.حاولت أن ألخص له الأمر فقلت له انا لا اشكو من أي مرض وأتمتع بصحة جيدة وقد لعبت قبل ثلاثة أيام مباراة في كرة القدم مدتها ساعة ونصف.
       عاد إلى الملف الطبي لدراسته من جديد.لاحظت أنه بعث رسالة عبر هاتفه.بعد لحظات تلقى مكالمة هاتفيه أدركت انها من طرف الدكتور الوافي الذي أرسلني الى هنا.
كان البروفيسور بني إيدريقول كلاما بالفرنسية معناه أنه غير مقتنع بنتيجة التحاليل التي تشير إلى وجود مرض السرطان.وفهمت من الأسئلة التي كان يطرح علي أنه توصل إلى خلاصة غير مؤكدة.
مباشرة بعد نهاية المكالمة، سارعت إلى القول بأسلوب لبق وساخر: إذا نفعني الكم القليل من اللغة الفرنسية الذي تعلمت فإنه لا وجود للمرض.أجابني:ممكن ولكن عليك ان تعيد لي تحليل عينة "بيوبسي" وهذه المرة من قلب الانتفاخ "الولسيسة".مدني برسالة وقال لي عد إلى الطبيب الذي بعثك إلي.كدت أنا وزوجتي نطير من الفرح وذكرتها بخيط الامل الذي كنت أتشبث قبل الدخول إلى مكتب الطبيب.
لقد عشت ثلاث ساعات بقاعة الانتظار وقبلها يومين في جلباب مريض بالسرطان وها أنا خارج من المصحة محملا بأمل جديد.كان اليوم يوم جمعة وكان شهر رمضان قد دشن أيامه الاولى.عدت مباشرة إلى بيتي بالمحمدية كانت الوالدة هناك رفقة أخي نور الدين الذي يقطن بجانبي. وجدت أسرتي وأسرة أخي مجتمعينفي انتظار آذان المغرب.بشرتهم بالخبر الجديد السعيد عانقت أمي وانخرطت في البكاء وتحولت الجلسة إلى جلسة دموع..دموع أمل وفرح.اتصلت أيضا بأصهاري وبعض الأصدقاء المقربين الذين كانوا يتتبعون الوضع لحظة لحظة.
في الصباح ذهبت باكرا إلى المقهى التقيت ببعض الأصدقاء الذين فرحوا للخبر.لكن للأسف سيظهر فيما بعد أنه فرح خادع وكاذب ومؤقت.
.........
قبل موعد الحصة الأولى للشيميو،العلاج الكيميائي يوم الأربعاء 06 غشت 2014 كان علي أن أجري عملية تركيب الغرفة يومين قبل هذا الموعد.لكن حصل ما لم يكن في الحسبان. لقد كنت طيلة فترة تشخيص المرض بصحة جيدة وكنت أستعد للشروع في العلاج بنفس الوضع الجيد.في يوم الأحد، أي ثلاثة أيام قبل البداية في العلاج، شعرت بصداع في الرأس سرعان ما تبعه ارتعاش وحرارة في الجسم وحمى.تبرد لم أشعر به طيلة حياتي.. استيقظت في الليل وجسمي يرقص من شدة البرد ضاعفت الغطاء لكن بدون بدون جدوى.
في هذه الحالة كان علي أن اذهب الى المصحة لتركيب الغرفة وكنت مصرا رغم كل شيء على عدم التأجيل لأنه سيضطر الطبيب الى تأجيل مواعيد حصص الشيميو.
مباشرة بعد الخروج من المنزل وكنت حينها في فيلا أصهاري بواد مرزك بدار بوعزة نواحي مدينة الدار البيضاء حيث قضيت هناك ما يزيد عن 40 يوما وسأعود إلى هذا الموضوع.بعد خروجي من المنزل أصابني الغثيان فقلت في نفسي: سمعت أن الغثيان يكون بسبب الشيميو وأنا بدأت بالتقيؤ قبل ذلك.
...في اليوم الثاني للحصة، مرت الإجراءات الإدارية بسرعة توجهت إلى سريري.بدأ التعايش مع الفضاء يأخذ مكانه وكلما ازداد هذا التعايش تخف الدهشة.
كان صداع الرأس قد تضاعف والانتفاخ قد ازداد. تغير لون وجهي وأصبح مزيجا بين الاصفرار والزرقة. كنت مسترخيا فوق السرير أتابع عبر الهاتف ما جد في شبكة الأنترنيت،والدواء ينساب من الأكياس إلى داخل الجسم.فجأة شعرت بسيل من القيح، نعم من القيح يجري كالماء من صنبور على ظهري وصدري وعلى عنقي.رائحته نتنة لم أشم مثلها في حياتي. أسرع الممرضون والممرضات إلى فتح نوافذ القاعة المكيفة ومد المرضى بالكمامات حفاظا على مناعتهم الضعيفة.حضرت طببية على وجه السرعة تجمع الفريق الطبي حولي.وبدأت إحدى الممرضات في عصر" مصدر القيح بعنقي.بعدها وضعوا ضمادات كان علي هي الأخرى أن أعالجها وأغيرها كل يوم .مدتني الطببية ببعض الأدوية أضيفت إلى البقية الباقية من كمية الأدوية الأخرى التي كنت أتناول..............
       ... من حكم الله أن فترة المرض التي عجزت فيها عن الحراك، عن الأكل والشرب و حتى عن الكلام، لم أعجز فيها عن التفكير وعن الإحساس. كنت أشعر بالألم الذي يعتصر أصدقائي.والله كنت أتألم لكوني مصدر ألمهم. كنت أقرأ تعاطفهم وتضامنهم معي حتى عائلاتهم تألموا وأصبح أفرادها متابعين لأخبار وضعي الصحي.
لن أنسى ما حييت مؤازرة أصدقائي في جمعية المحمدية للصحافة والإعلام: عزيز بلبودلي، حبيب محفوظ، جلال كندالي، رشيدة مومني،سعيد هندي، عبد العالي عماري، خالد شجري و محمد رايس. لم يتوقفوا عن السؤال عني ولم أغب عن أذهانهم لحظة واحدة.كنت أشعر أنهم يبكون في غيابي وهو ما أكدوه لي بعد فترة. كتب لي مرة جلال كندالي رسالة: لو كان الألم قرضا ماليا لتحملناه معك.عزيز بلبودالي لم يتوقف عن نشر صوري معه على صفحته الفيسبوكية وطلب الدعاء لي.حبيب محفوظ والآخرون كانوا يسألون بكل الوسائل والجميع يقول انه رهن اشارتي في اي طلب.حتى جلساتهم بالمقهى فقدت حلاوتها وأصبحت ناذرة.
أصدقائي في جمعية خريجي المعهد العالي للإعلام والاتصال،المعهد العالي للصحافة سابقا،عاشوا نفس الألم.زاروني أكثر من مرة ولم يتوقف سؤالهم لحظة. ستخلد في ذاكرتي مواقف عبد الطيف لمبرع، سناء الزوين، سارة زروال، محمد التويجر ،نور الدين بلزرق، سعيد بوزيام، علال نجدي و يونس القاضي............
        نفس الكلام والمشاعر يمكن أن أكتبها عن أصدقائي في نادي قفاز البرنوصي للملاكمة الذي أسسناه بخيرية سيدي البرنوصي سنة 2006.وذلك لمساعدة الأطفال اليتامى على الاندماج في محيطهم الاجتماعي من خلال ممارسة رياضة الفن النبيل.
كان هشام محفوظ، الحاج شمسي، ابراهيم اديف، محمد لفروجي، مصطفى فحصاوي، رشيد انعامي، وشقيقه حسن.......؟؟؟؟؟؟ دائمي السؤال عني بشتى الوسائل.وزاروني في البيت أكثر من مرة.
وهناك أكثر من صديق لم يتمالك دموعه أمامي مثل جلال السالكي الذي يقول دائما ومنذ سنوات إنني مثله الأعلى. كنت أتحول في مثل هذه المواقف إلى مهدئ ومواس.دموع لا يمكن أن تنبع إلا من قلب صادق متألم لحال صديق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق