ملصق سوفيتي يحمل عبارة "الرفيق لينين ينظف الأرض من القاذورات"
|
بقلم : مصطفى
الزارعي
الشكوى من الدم الملتصق بالثورات ليس جديدا..
إنه أمر ثابت ومكرور.. وقد تمضي الأعمار والسنون لكن الدم يبقى الرائحة الوحيدة
المتصاعدة من قبور الثورات أو من عروشها وحيوات حكمها.. ولم يحدث أبدا أن تمت
ثورات بلا أكلاف وأثمنة الدم، وضحايا بلا عد ولا حساب، حتى أنه يندر أن تضع ثورة
ما جرد حساباتها على صفحة بيضاء، بل إن حساب جميع الثورات ينتهي بدزينة صفحات من
الخسائر مملوءة من أولها إلى آخرها، وأحيانا لا تتوقف الخسائر حتى بعد نجاح الثورة
أو بداية ما بعد الثورة.. أو لا تعمر في شعب كأفضل الطرق لتنشيط حركة المقابر..
ولا تشد الثورات العربية عن هذه القاعدة، فقد ألصقت بنفسها أكلاف دموية
زائدة.. حتى أن الثورة الليبية، وهي الثورة التي صنع الزعيم معمر القذافي أسبابها
على مهمل وعلى امتداد أزيد من ثلاثة عقود، فكان مُوقدها وحطب نارها الذي أتت عليه
في مشهد دراماتيكي أعدم فيه ببطىء ووحشية من قبل الثوار، وربما يكاد يكون المشهد
الوحيد الذي تناقلته الصور، ما دونه فلم يظهر سوى أصوات القتل التي كانت تصنعها
أسلحته ومليشياته في الثوار..
أما الثورة المصرية، فقد تمت بأغرب الوسائل، وقادها الجيش المصري بالروموت
كونترول، محيكا وصانعا لاعتصاماتها وصراعاتها ومناوراتها، إلى أن تمكن منها وانقلب
عليها وأجهز على من كانوا يوهمون أنفسهم أنها صنيعتهم سواء كانوا من الشباب أو من
الأحزاب اليسارية أو الأخوان المسلمين.. فسقط مئات الشهداء وما زالوا يسقطون يوميا
على يد الجيش ورجال الأمن، فيما نجحت الثورة التونسية، بأقل الخسائر.
أما الثورة السورية التي ما زالت تدور
رحاها حتى الساعة، والتي اعتبرت من أشرس وأدمى الثورات، فقد ذهبت بعيدا في الفوضى
والعبثية، حتى أنه لم يسبق لنظام سياسي أن نكل بشعبه كما هو حال نظام البعث
السوري، فيما يشبه الإبادة اليومية..
لكن عموما فإن الثورات العربية ومهما يكن من فرط دمويتها على يد الأنظمة
التي كانت حاكمة أو التي ما زالت تحكم، فإن جانبا أساسيا من دمويتها لا يخلو تدبير
الثوار أنفسهم، فيما يشبه الرد بالمثل ضد قوات النظام الحاكم.. وهذا ما يميزها عن
باقي الثورات التي شهدتها العديد من الدول، وعن الأنظمة التي قادت شعوبها
بديكتاتورية وعلى نحو دموي..
فقبلها بعقود خاضت الثورة البلشفية في
أوقيانوس من الدم، وأجهزت على أزيد من مائة مليون نسمة على امتداد ثمانين عاما من
عمرها، وهو رقم أورده الكاتب الفرنسي، ستيفان كورتوا المناضل الشيوعي في
مؤلفه"الكتاب الأسود"، وثورة ماو تسي تونغ الصينية التي أتت على ملايين
الضحايا في أطول مسيرة حمراء دموية امتدت من شمال إلى جنوب الصين خلال عشرين سنة..
وتحررت فيتنام من الهيمنة الأمريكية بمقتل ثلاثة مليون فيتنامي، وتمت الثورة الخمينية،
بمقتل آلاف الإيرانيين، وقَتل أزيد من مائة عالم ومفكر إيراني وإعدام مائتى وخمسون
من كبار الجنرالات والضباط العسكريين.. ومباشرة بعد تحرير فرنسا من النازية، أعدم
مئات الفرنسيين الذين كانوا يشتغلون مع حكومة فيشي الموالية للنازية، وقتل الثوار
الفرنسيين أزيد من ثلاثين ألف فرنسي بتهم التواطؤ مع الاحتلال الألماني، ولم تنج
العاهرات وأصحاب المواخير الذين كانوا يسمحون باستقبال الجنود الألمان.. وقبل ذلك،
سارت الثورة الفرنسية في أكثر الطرق دموية، فقد أعدمت وبدون محاكمة رؤوس الطبقة
الأرستقراطية، ولم يسلم من القتل حتى العلماء، فقد قطعت المقصلة رؤوس علماء
ومفكرين كبار، مثل لافوا زييه أبو الكيمياء الحديثة، والمفكر كوندورسيه، وسالت
دماء الأمريكيين، في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبآلاف الضحايا، والحرب
الأهلية الأسبانية بين الفرانكويين والجمهوريين، التي ما زالت أسرارها تقض مضجع
اسبانيا حتى الآن.. والانقلاب على الثورة الشيلية، الذي أتى على آلاف الديمقراطيين
والمناضلين في الشيلي، إضافة إلى عشرات الثورات في إفريقيا وآسيا وأميركا
اللاتينية، التي كانت فيها حصة الدم أكبر كثيرا من حجم الأفكار التي أتت بها..
فلم يحدث أبدا أن خلت ثورة من الضحايا وسفك
الدم، كما لم تكن الثورات في يوم من الأيام بيضاء، أو بلون البياض، الذي هو سمة
للخلو والفراغ وليس عنوانا لبصم وترميز ثورة من الثورات، حتى بالمقاييس التي شرعت
وانتصرت لأفكار المهاتما غاندي، أبو الثورة الهندية، فقد تمكن من تحرير الهند من
الاستعمار الانجليزي بأعداد لا تذكر من القتلى الهنود، بل لم ينج هو نفسه من
الموت، فقد أفرغ متطرف هندوسي مسدسه في صدره، مباشرة بعد استقلال الهند، وكأنه
يريد أن ينتزع منه دينا ضافيا، ضدا على مقاومته للاستعمار..
وخلال محاكمة غزنبرغ ضد قادة وزعماء النازية،
التي شارك فيها عشرات المفكرين والكتاب، ألقى ألبير كامي كلمة في جلسة من جلسات
المحاكمة، قال فيها : "... لم يكن ممكنا القضاء على النازية بالحوار، فهي لم
تقدم نفسها كطرف يقبل بذلك، كما لم يكن ممكنا دفعها للتخلي عن تدمير الشعوب
الأوروبية، فقد أتت من أجل احتواء كل الشعوب، ولم يكن ممكنا أيضا إضعافها دون
مقاتلتها، بل كنا مضطرين لمقاتلتها لأنها سبقت وأعلنت القتل ضد الجميع...".
وعلى هذا النحو سارت معظم الثورات، إذ تجد
نفسها مسبوقة بنوايا واستعدادات القتل التي تعلنها الأنظمة الحاكمة، فتكون مضطرة
للرد على مقاتلتها، ولو بالقتل اعتراضا على مقتلها، ولو بأضعف الوسائل، وبأسلم
الأهداف، وبمبررات الدفاع عن النفس، كما حدث في الثورة الليبية، التي قاتلت اتقاء
لها من ميليشيات العقيد معمر القذافي، قبل أن تقاتل من أجل تحييده وإسقاط نظامه..