الجمعة، 6 مارس 2015

إلى الصارخ الثائر ضد العلمانية..


ـ عبدالرحيم الوالي
     
       بعد التحية والسلام وما يفرضه المقام من عبارات التقدير والاحترام، اسمح لي أن أقول لك إن الإنسان حين يناهض فكرة معينة وهو يفهمها جيدا يكون أكثر فعالية في مناهضتها. ولذلك أرجو أن تقرأ منشوري هذا إلى آخره بعقلك. وبعدها يمكنك أن تناهض العلمانية كما تشاء.

        العلمانية يا عزيزي ترجمة لكلمة Sécularisme. وإذا كان الله قد فتح عليك ببعض الفهم للغة الفرنسية وتفضلت بالعودة إلى أي قاموس فستجد أن الكلمة تحيل على كلمة أخرى هي Sécularisation، وستجد أن المعنى الأساسي الذي تحيل عليه هذه الكلمة هو "الإرجاع إلى العالم" (Rendre au monde). ما معنى ذلك؟
معناه ببساطة شديدة جدا تفسير ما يحدث داخل العالم من داخل العالم نفسه لا من خارجه، أي التفسير بالمُحايث عوض التفسير بالمُفارق. فقد كان الإنسان في العصور القديمة يفسر ظواهر الطبيعة والمجتمع تفسيرا ميتولوجياً، وينسب الرعد والبرق والشمس والحب والحرب والطغيان والذكورية و... إلى الآلهة. أما في العصر الوسيط، ومع انتشار الديانة المسيحية في أوروبا، وبعد إدماج فلسفة أرسطو وفيزيائه ومنطقه في اللاهوت المسيحي ابتداء من كتاب "الجمع التيولوجي" للقديس توماس الأكويني، فقد صار الإنسان يفسر ظواهر الطبيعة والمجتمع بالله.
       غير أن التغيرات التي شهدتها أوروبا ابتداء من منتصف القرن الخامس عشر الميلادي قادت إلى إحداث قطائع معرفية كبرى، إذ تطورت العلوم الطبيعية، وبعدها العلوم الإنسانية ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، واكتشف العلماء خطأ التصورات الكنسية ومن ورائها التصورات الأرسطية. وبفعل تطور العلوم الطبيعية عرف الإنسان أن ظواهر الطبيعة تكمن وراءها عوامل طبيعية يمكن للعلم تحديدها ومعرفتها بدقة، ومن تم استخراج القوانين العلمية المتحكمة فيها. وبفضل هذه التطورات العملية المتلاحقة منذ ذلك الوقت تمكن الإنسان من صنع الأدوية التي عالج بها العديد من الأمراض التي كانت تُنسب سابقا إلى الأرواح الشريرة. كما أنه ـ بفضل تلاحم العلم والتقنية وظهور التكنولوجيا الحديثة ـ صنع التلفاز، والحاسوب، وأجهزة الكشف الطبي، والهواتف الخلوية وما لا تعلمون. وبالتالي فكل العلم الحديث والمعاصر، والتكنولوجيا، علمانية ولا يمكن أن تكون إلا كذلك.
       نفس التطور يا عزيزي حصل في مجال السياسة. وبعد أن كان الحاكم يحكم بتفويض من الله كما هو الأمر مثلا عند القديس أوغسطين، أو بناء على القانون الإلهي كما هو الأمر عند الأكويني، أو يتلقى الوحي من الله عبر "العقل الفعال" كما هو الأمر عند الفارابي، صار من الضروري تفسير السياسة وتقنينها أيضا بإرجاعها إلى العالم، أي عبر تفسيرها ـ هي الأخرى ـ بالمُحايث بعد أن ظلت مرتبطة بالمُفارق، وصار الحاكم يحكم بناء على تعاقد دنيوي، بشري، بين الحاكمين والمحكومين.
       هذا، باختصار وتبسيط شديدين، هو معنى العلمانية سواء في فهم الطبيعة أو في فهم السياسة وباقي ظواهر المجتمع. وإذا كنت ما تزال مصرا على رفضها فينبغي أن تكون منسجما مع نفسك، وأن تبدأ بعدم الاستماع إلى النشرة الجوية وتنتهي بعدم استعمال المضادات الحيوية حين تُصاب بالتهاب في اللوزتين أو بنوبة زكام لأنها من منتجات الفهم العلماني للطبيعة. وإذا ما حدث أن تقرحت مؤخرتك مثلا ـ يا أخي ـ أو أصابك فتق شرجي (Une fissure anale) فلا تبتئس وتستسلم لطبيب علماني لكي يعالج مؤخرتك بالليزر. فهذه الأشعة هي نتاج صرف للفهم العلماني للضوء وظواهره، وتوكل على الله نور السماوات والأرض، وادهن مؤخرتك بالعسل الطبيعي لأنه ـ حسب ما يروج له "الإخوان" ـ يشفي من كل داء. وإذا ما حدث أن تخمجت مؤخرتك بسبب تعفن الكليكوز في أستك فليس لنا إلا أن نقول لك: "صدق رسول الله وكذبت مؤخرتك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق