الأحد، 30 يونيو 2013

رحيل آخر الصعاليك .. المفكر التونسي العفيف الاخضر


           رحل يوم الخميس ـ 27 يونيو 2013 ـ المفكر التونسي العفيف الاخضر عن عمر يناهز 79 سنة، العفيف انتحر في شقته بباريس كما ورد في أغلب قصاصات الانباء، هذا المفكر المشاكس الذي ظلّ طوال حياته يملأ الفضاء صخباً وعنفاً أينما حلّ وارتحل، وحيثما تنقلّ بفكره وقلمه، ظلّ يحارب الكل ويحاربه الكلّ، معتنقاً شعار القديس اثناسيوس الذي قيل له “العالم كله ضدك يا اثناسيوس”، فكان ردّه تلقائياً وسريعاً؛ و”أنا ضدّ العالم”، هذا كان لسان حال العفيف الاخضر، يقول كلمته غير عابئ بالخصوم والانصار ماذا سيقولون، فكم من مرّة صدم أنصاره قبل خصومه.

نشأته
       ولد العفيف سنة 1934في قرية “مكثر” من أسرة تونسية فقيرة جداً، كان والده فلاحاً بسيطاً مات تاركاً العفيف صغيراً يواجه صعوبة الحياة وقسوتها، يقول عن هذه المرحلة في حواره مع موقع ايلاف :”توفي أبي وعمري 13 عاماً وكانت صدمة مروعة لم أنجح في إقامة الحداد عليه ربما حتى الآن، مات أبي في كوخنا المعزول، وعندما عدت إلى العاصمة تونس لمواصلة سنتي الثانية في التعليم الزيتوني كنت أذهب كل مساء إلى “سوق العصر” الذي يأتيه الفلاحون من إحدى الاحياء الفقيرة جداً  “الملاسين” التي يسكنها الريفيون النازحون. وكلما رأيت فلاحاً يرتدي برنوساً ركضت لأنظر إليه من أمام عسي أن يكون هو أبي الذي دفنته بنفسي في مقبرة القرية. يعني ذلك أنني لم أصدق موته وهي حالة تقود عادة إلى الجنون.
      كيتيم مفجوع اندفعت أبحث عن أب بديل أتماهي معه. تماهيت بالشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يأتي إلى الزيتونة في الساعة العاشرة يعطي درسه في حلقة التعليم العالي. وكان يمر على حلقتي، في الثانوي، فكنت أقوم من الحلقة وألتحق بحلقته غير مبال بالصفر الذي سيضعه الشيخ أمام أسمي عقاباً لي عن تركي حلقته. لاحظ الشيخ الفاضل ذلك فتعاطف معي وتوطدت العلاقة بيننا وبات يعاملني كأحد طلبة حلقته رغم أن الفارق بين حلقتي وحلقته خمسة سنوات. في الوقت ذاته تماهيت بطه حسين إلى درجة الذوبان فكنت أضع عصابة على عيني كما لو كنت أعمي وأرتجل أمام زميل لي هو الهادي بالأخضر مقلداً طه حسن. في 1954 تماهيت ببورقيبة فاندفعت بحماس بل ربما بتعصب عن خطه السياسي. وعندما أصدر غداة الاستقلال 1956 قوانين الأحوال الشخصية لتحرير المرأة التونسية من قصورها الأبدي، رد عليها شيوخ وخريجو الزيتونة بالتكفير تحمست أنا لها إلى درجة أنني في محافظتي النائية والمتأخرة جداً ثقافياً واقتصادياً وفكرياً كنت أخرج مع خلية حزب الدستور، حزب بورقيبه، إلى القرى والدواوير لأفسر لهم مزايا هذه القوانين الجديدة وعدم مجافاتها لروح الإسلام. كان ذلك خلال الإجازة المدرسية وكان لذلك صدى طيباً.
في شبابه كان يميل الى كل الافكار المتمردة، درس القانون وأصبح محامياً، تكلف بالمرافعة عن “صالح النجار” الذي اتهم بمحاولة اغتيال الحبيب بورقيبة، لكنه فشل في الدفع باستصدار حكم مخفف عليه، وصدر حكم الاعدام في حقّ موكله، فأضاف هذا الحكم جرحاً غائراً الى نفسه الى جانب جرح الرحيل المبكر للوالد وحياة الفقر والقسوة، بعد ذلك سيوضع تحت الاقامة الجبرية الى أن تمكن من الهروب الى فرنسا سنة 1961 ومنها سيأتي الى الجزائر للعمل الى جانب صديقه أحمد بنبلة .

رحلته الى الجزائر للعمل بجانب بنبلة.
     
       في الجزائر عمل الى جانب الرئيس أحمد بنبلة وتكلف بالاشراف على جريدة العمل والثورة” وحينها عُرف مثقفاً مشاكساً يتقن فن الجدال والنقاش، حتى شاعت مقولة كانت تردّد حينها تقول :”الثالوث العنيف، طاهران والعفيفوالمقصود ب “طاهران” الروائي الجزائري المعروف الطاهر وطار والاديب الصحفي الطاهر بن عيشة، إضافة الى العفيف الاخضر، وكان قد عرف الثلاثة بقدرتهم على الجدال وافحام الخصوم. في الفترة التي قضاها بالجزائر تعرف على الفلسطيني”خليل الوزير” (أبو جهاد)، وكان يترجم له المقالات من الصحف الفرنسية، كما عمل على عقد لقاء بين أبو جهاد والثائر الارجنتيني ارنستو تشي غيفارا وهو ما تم فعلا سنة 1965 بالجزائر . بعد االانقلاب الذي قاده الهواري بومدين على بنبلة، جمع العفيف حقيبته ورحل الى ألمانيا الشرقية. يقول عن هذه المرحلة في حواره مع ايلاف
       يقول عن هذه المرحلة في حواره مع ايلاف
مكنتني هجرتي الأوربية الثانية بعد الانقلاب العسكري على الرئيس بن بيلا 1965 من زيارة تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية اللذين وجدتهما أشبه بالمعتقل لسكانهما منهما بالمجتمع. قالت لي فتاة تشيكوسلوفاكية عاملة عندما سألتها إن تعّرف لي النظام الذي يحكمها: “نظاماً فاشياً” أما في ألمانيا الشرقية وقد كنت يومياً أستمع إلى نكات العمال على حساب “جنة الاشتراكية الألمانية”. في برلين الغربية كنت في حانة نحتسي البيرة فسألت مجموعة من العمال الشباب عن رأيهم في الماركسية فقتادني أحدهم إلى خارج الحانة وأشار بسبابته إلى جدار برلين الشهير قائلاً:”هذه هي الماركسية.. في الحقيقة كانت أوهامي عن الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا إلخ والأحزاب الشيوعية في العالم العربي والعالم قد تلاشت قبل ذلك. دخلت مع المعسكر الاشتراكي والأحزاب الشيوعية العربية في سجال عنيف. وردوا إليّ الصاع صاعين فاتهموني في 1967 بأني عميل لألمانيا الغربية بسبب موقفي من ألمانيا الشرقية، وفي 1971 زعم محمد يزيد، سفير الجزائر في بيروت، أمام المحامي الصديق جبران مجدلاني بأنه يعرف رقم الحساب المصرفي الذي فتحته لي المخابرات المركزية الأمريكية في أحد مصارف بيروت والحال أن الصديق المذكور كان يعرف وضعي المادي على حقيقته . ولولا أن صادق العظم آواني مشكوراً في منزله لمدة عام لكنت مشرداً حقيقياً. باختصار حاربتني الأحزاب الشيوعية بالشائعات . كانت مشاعري إزاء ذلك مزيجاً من الشعور بالاضطهاد والعزلة والاعتزاز . الاعتزاز بأنني غير مفهوم وأكلف الشرق والغرب مشقة فهمي: الغرب يرفضني لأنني ماركسي والماركسيون اللينييون يرفضونني لأنني عميل للغرب. ساعدني ذلك على أن أفكر بنفسي باستقلال عن المرجعيتين الشرقية والغربية .

الالتحاق بصفوف المقاومة الفلسطينية
     
      بعد معركة الكرامة في الاردن، سيتصل العفيف الاخير بأبي جهاد ليمكنه من جواز سفر ليسافر الى الاردن ويلتحق بصفوف المقاومة، وهو ما تم فعلاً وساهم في الجدال الحامي الذي كان سائدا أنذاك بين الفصائل الفلسطينية، فكان هو ينافح على طروحات نايف حواتمة والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وعرف عنه اجتراحه للعديد من الشعارات التي لردح من الزمن عناوين مرحلة للكفاح الفلسطيني، فله تعود شعارات مثل:”كل السلطة للمقاومة” و “كل السلطة للمجالس”و”ولا سلطة فوق سلطة المقاومة”. لكن بعد ذلك سيفقد ثقته بهذه المقاومة بعد أن تحولت فصائلها الى الاحتراب الداخلي والانتصار للأنا على حساب الانتصار للمشروع التحرري، حينها سيغادر الاردن الى لبنان وهناك عمل على نشر مقالات ينتقد فيها المقاومة الفلسطينية وتنبأ لها بالسقوط في احضان الانظمة الرجعية ، وكتب كتابه “من كمونة باريس الى مجازر عمان” يقارن فيه بين فشل كمونة باريس وفشل المقاومة الفلسطينية.
في هذه المرحلة تحدث في مقالاته عن الامبريالية السوفياتية والامبريالية الصينية وهو ما خلق ارتباكاً داخل صفوف اليسار العربي الذي كان اما مواليا للاتحاد السوفياتي او الصين الشعبية. وراح اليساريون يصبون جام غضبهم على هذا الاحمق الذي يتطاول على الكل واتهم بأنه فوضوي.
      وفي 1975 سيعيد ترجمة البيان الشيوعي ويقدم نقدا لاذعاً وساخراً للترجمات السابقة وسينعت جورج طرابيشي ووضاح شرارة بجلادي الترجمة العربية، فكانت هذه النسخة تلحق بعبارة “أول ترجمة غير مزورة للبيان الشيوعي”، في حاشية هذا البيان يستطرد كثيراً للشرح التطرق لموضوعات كثيرة، من بينها أن أعلن أنه لا يبحث عن أن يكون له أتباع ولا أنصار، وقال “انا أقدم هذه الترجمة للعمال والفلاحين المعنيون أساساً بالثورة أما الطلبة واشباه المثقفين فلا أريدهم أن يقرأوه ولا أقدمه لهم أحرى بي أن أركلهم على مؤخراتهم هؤلاء على أن أكتب لهم”. وبعد الحصار الذي عاشه في بيروت من المثقفين والتيارات اليسارية وبعد بداية الحرب الاهلية اللبنانية سيعود الى فرنسا مهوساً بالبحث عن سبل مواجهة الامبريالية والاجهاز عليها، حتى أنه كان مصابا بفوبيا الامبريالية، يحكي الصحفي التونسي الصافي سعيد في كتابه “لا هم أنبياء ولا هم شياطين” عن العفيف الذي كان لا يأكل المعلبات والمنتجات الغذائية الاوربية لأنها ملوثة بجينات الامبريالية، وكان يكتفي بأكل المواد الفلاحية غير الملوثة، فيحكي الصافي أن كان يصطحب معه في محفظته حبات من ثمار الصبار “التين الشوكي” ليداري بها جوعه إذا ما داهمه. وحين يكون جالساً في مقهى ما في باريس وإذا طلب منه النادل ماذا سيشرب كان يطلب منه قهوة، يأتي بها النادل ويتركها على طاولته دون أن يعب منها رشفة، فقط يطلب القهوة كي يستريح قليلا في المقهى.

طلاق الماركسية والانعطاف الى الليبرالية
     
      بعد هذه المرحلة سيعلن طلاقه مع الماركسية وسينعطف نحو الافكار الليبرالية ويعلن
كان ماركس حالماً وانا أيضاً … لا ننسي تأثير طوباوية الكتاب المقدس على ماركس فالمهدي المنتظر أو عودة المسيح حاضر كقماشة الخلفية وراء رؤياه الاشتراكية، لكنه اسقط عودة المسيح، الذي أضفي على أحلامه مسحة إنسانية وأخلاقية، على البلوريتاريا التي بات عليها أن تحقق مهام المهدي المنتظر. نقده لرأس المال هو نقد اقتصادي نصفاً وأخلاقي نصفاً. الحركات الاشتراكية في القرن التاسع عشر ومنها الماركسية كانت أساساً احتجاجاً أخلاقياً على الرأسمالية المتوحشة التي كانت تشغل العمال دون أدني ضمانات 14، 12 وأخيراً عشر ساعات متواصلة بمن فيهم الأطفال الذين كانوا أحياناً يموتون خلال الشغل.
الرأس مالية المعاصرة هي أيضاً، في نظري غير قابلة للحياة، وإذا لم تدخل عليها الإنسانية المفكرة والإنسانية المتألمة تعديلات جوهرية سواء في نمط إنتاجها أو في نمط استهلاكها غير المحدودين والحال أن موارد الكرة الأرضية محدودة ومهددة بالنفاذ، بعضها بالنفاذ الوشيك مثل الماء والأكسجين، وإذا أرادت البشرية أن تصل يوماً ما إلى مستوي استهلاك مماثل لاستهلاك الولايات المتحدة الحالي فيلزمها لتحقيق هذا الهدف ثلاث كرات أرضية كما يقول جيروم باندي مدير مكتب التحليل والتوقع في منظمة اليونسكو.بل حسب الصين أن تصل إلى مستوي الإنتاج الأمريكي خلال العقود القادمة لتحل بالأرض كارثة أيكولوجية. الخلاصة أن الرأس مالية تحتاج إلى إصلاحات ثورية سلمية متواصلة تؤدي في النهاية إلى تغيير طبيعتها الإنتاجية والاستهلاكية والتنافسية. التنمية المستدامة التي اقترحتها الأمم المتحدة خطوة أولي في مسيرة الألف ميل إلى هذا الهدف. معني ذلك أن تبدأ الأجيال الحالية في التفكير جدياً في مصير الأجيال التي لم تولد بعد وهذا يتطلب إعادة النظر في الأنانية المرضية المتأصلة في النفسيات اليوم”.

نهاية على وقع الانتحار
     
       بعد هذه الانعطاف في حياته الفكرية سيكرس وقته للدفاع عن العلمانية وفق منظوره ويدافع عن أفكاره الليبرالية التي لا بد منها، مما جعله يسقط أحيانا في التماهي مع افكار المحافظون الجدد وخصوصاً فكرته القائلة أن المجتمعات التي لم تتغير سيحكم عليها التاريخ أن تتغير بقوة من الخارج، وهو ما رآه البعض دفاع منه عن فكرة استيراد الديموقراطية على ظهر الدبابات وبالتالي تأيده الضمني للتدخل الامريكي في المنطقة. كما سيعكف على العودة الى دراسة التراث العربي، وكان قد سبق لرشيد الغنوشي أن اتهمه بتأليفه كتاب” المجهول في سيرة الرسول” الذي صدر ممهوراً بتوقيع اسم “الدكتور المقريزي” والذي تبين من بعد أنه مجرد تخمين وافتراء من طرف الغنوشي إذ العفيف الاخضر لم تعوزه الجرأة في حياته لينفي نسب كتاب اليه، مهما كان موضوعه. وفي سنة 2003 أصيب بمرض عضال، وأصبح معه غير قادر على تحريك يديه، وعاش عزلة قاتلة لا يزوره إلا بعض أصدقائه الاوفياء الذين ساعدهم بعضهم عن كتابة بعض المقالات التي كان يفتيها عليهم لنشرها وظل هكذا  إلى اخر أيام حياته.
كان الانتحار في حياته لغة عادية يداعب بها الرفاق والاصدقاء وأحياناً يهدد به، فيحكى أنه قال لجمع من رفاقه سنوات السبعينيات إذا لم تتحقق الاشتراكية العربية في غضون 10 سنوات سأنتحر. ويوم الخميس 27 يونيو عثر عليه في شقته في باريس منتحراً تحت وقع كلمته الاثيرة”بيدي لا بيد عمرو”.هكذا عاش العفيف حياة “الصخب والعنف” واختار لنفسه أيضاً هذه الموت الصاخب.

محمد المساوي

قراءة بتاريخ 29 يونيو, 2013       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق